على أعينِ الناس: علناً أمام جميع الناس، كما يقال: على رؤوس الأشهاد. فرجعوا الى أنفسهم: ففكروا وتدّبروا. ثم نكسوا على رؤوسهم: بعد أن أقرّوا انهم ظالمون، انقلبوا تلك الحال الى المكابرة والجدل بالباطل.
﴿قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ﴾.
واتفقوا أن يحاكموه علناً على رؤوس الأشهاد فقالوا: أحضِروه أمام جميع الناس ليشهدوا عليه وتكون شهادتهم عليه حجةً لنا. فلما أتوا به قالوا له: أأنت كسرتَ هذه الآلهة وجلْتَهم قظعا؟ وطلبوا منه ان يعترف بذنبه.
فأجابهم جواباً ذكياً لطيفا، أدهشهم وحيّرهم إذ قال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا﴾ فاسألوه واسألوا أصنامكم ليُخبروكم إن كانوا يتكلمون. فكانت مقالةُ إبراهيم عليه السلام حجةً شديدة الوقع في نفوسهم وحيرّتهم ولم يعرفوا ما يقولون.
﴿فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون﴾
فكأنهم أفاقوا نم غفلتهم لحظات، فراحوا يلومون أنفسَهم ويقولون: حقيقةً إنكم أنتم الظالمون، كيف نعبدُ آلهة لا تدفع الأذى عن نفسها!
﴿ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ﴾.
ثم عادوا إلى جهالتهم كأنهم وقفوا على رؤوسهم، وانقلبوا من الرشاد الى الضلال، وقالوا لإبراهيم: أنت تعلم ان هؤلاء لا يتكلمون فكيف تطلبُ منا ان نسألهم؟
وهنا ظهرت حجةُ ابراهيم واضحة، ورأى الفرصة سانحة لإلزامهم الحجة فقال: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
فقال إبراهيم متهكماً عليهم: لقد أقررتُم أن هذه الأصنام لا تنطق ولا تردّ أذى ولا تنفع، ومع ذلك تعبدونها من دون الله، متى ترتدّ اليكم عقولكم! أفٍّ لكم وقبحاً لآلهتكم.
ولما بان عجزُهم وظهر الحقّ أخذتهم العزّةُ بالإثم كما تأخذ الطغاة حين يفقدون الحجة، فلجأوا الى استعمال القسوة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾.
هنا لجأوا الى منطق العُتاة وفعل الطغاة، فقالوا: احرِقوا إبراهيم هذا بالنار، وانصروا آلهتكم عليه بهذا العقاب، إن كنتم تريدون نصرها.
ولكن الله تعالى أبطَلَ كيدهم، ودفع عنه الهلاك بمعونته وتأييده فقال:
﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين﴾.
أوقَدوا ناراً عظيمة ليحرقوه ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فلم تضرّه بإذن الله، ونجا منها، وكانت معجزةً كبرى لابراهيم. لقد أرادوا ان يبطشوا به ويهلكوا بالنار، فنجّيناه ورددنا كيدهم في نحورهم وجعلناهم الخاسرين.
ونقل كثير من المفسرين كلاماً كثيراً في سيرة ابراهيم من الاساطير القديمة نضرب عنه صفحا لعدم الفائدة منه.