وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده والاكتفاء بكفالته سبحانه :« لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».
ولقد أطلنا الاقتباس من نصوص السورة في هذا الاستعراض الإجمالي - قبل مواجهة هذه النصوص فيما بعد بالتفصيل - عن قصد! ذلك أن سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح، ويصف تكوينه العضوي.. وفي هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال، ومن النفاق والضعف، والتردد في الواجبات والتكاليف، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى، وعدم المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة - وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار - مما استدعى حملات طويلة مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير، تفي بحاجة المجتمع إليها.
ولقد سبق أن أشرنا إجمالا إلى أن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح لم تتم تربيتها ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل. إلا أن هذه الإشارة المجملة لا يمكن فهمها بوضوح إلا بمراجعة الواقع التاريخي الحركي قبل الفتح وبعده.. وسنحاول أن نلم به هنا بأشد اختصار ممكن قبل التعليق بشيء على دلالة هذا الواقع التاريخي ومغزاه، ودلالة النصوص القرآنية التي وردت في سياق هذه السورة كذلك.
لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة :«أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه» وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه.


الصفحة التالية
Icon