وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون ولكنهم كانوا في أوائل الطريق. كانوا في دور التربية والتكوين. ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر، مسلمين أمرهم للّه، مرتضين قيادته، ومستسلمين لمنهجه. ومن ثم لم يطردهم اللّه من كنفه، بل رحمهم وعفا عنهم وأمر نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - أن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، وأمره أن يشاورهمفي الأمر، بعد كل ما وقع منهم، وبعد كل ما وقع من جراء المشورة! نعم إنه - سبحانه - تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك، وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير.. ولكنه لم يطردهم خارج الصف، ولم يقل لهم : إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر، بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف.. لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم، ورباهم بالابتلاء، ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء، والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات. في رحمة وفي عفو وفي سماحة كما يربت الكبير على الصغار وهم يكتوون بالنار، ليعرفوا ويدركوا وينضجوا. وكشف لهم ضعفهم، ومخبآت نفوسهم، لا يفضحهم بها، ويرذلهم، ويحقرهم، ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملا. ولكن ليأخذ بأيديهم، ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل اللّه المتين. ثم وصلوا.. وصلوا في النهاية، وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة. وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح، يخرجون مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - غير هيّابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه اللّه بهم :«الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»..
ولما كبروا بعد ذلك شيئا فشيئا.. تغيرت معاملتهم، وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار. بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة ومؤاخذة اللّه ورسوله للنفر القلائل المتخلفين، تلك المؤاخذة العسيرة، يجد الفرق واضحا في المعاملة ويجد الفرق واضحا في مراحل التربية الإلهية العجيبة. كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد، والقوم يوم تبوك.. وهم هم.. ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا