وليست هنالك آلية في نظام الكون كله، ولا حتمية أسباب تنشئ بذاتها آثارا. فالسبب كالأثر كلاهما مخلوق بقدر.. وكل ما يصنعه اتجاه الناس بأنفسهم هو أن تجري مشيئة اللّه بهم من خلال هذا الاتجاه، أما جريان هذه المشيئة وآثاره الواقعية فإنما يتحقق بقدر من اللّه خاص بكل حادث :«وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ».
وهذا التصور - كما أسلفنا عند مواجهة النص في سياق السورة - يزيد من ضخامة التبعة الملقاة على هذا الكائن الإنساني بقدر ما يجلو من كرامته في نظام الكون كله. فهو وحده المخلوق الذي تجري مشيئة اللّه به من خلال اتجاهه وحركته.. وما أثقلها من تبعة! وما أعظمها كذلك من كرامة!
وفي السورة كلمة الفصل كذلك في دلالة الكفر وعدم الاستجابة لهذا الحق الذي جاء به هذا الدين، على فساد الكينونة البشرية، وتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية فيها، واختلال طبيعتها وخروجها عن سوائها.
فما يمكن أن تكون هناك بنية إنسانية سوية، غير مطموسة ولا معطلة ولا مشوهة ثم يعرض عليها هذا الحق، ويبين لها بالصورة التي بينها المنهج القرآني ثم لا تستجيب لهذا الحق بالإيمان والإسلام. والفطرة الإنسانية بطبيعتها مصطلحة على هذا الحق في أعماقها فإذا صدت عنه فإنما يصدها صاحبها لآفة فيه تجعله يختار لنفسه غير هذا الهدى وتجعله بذلك مستحقا للضلال، ومستحقا للعذاب، كما قال اللّه سبحانه في السورة الأخرى «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ»..
وفي هذه السورة ترد أمثال هذه الآيات الدالة على طبيعة الكفر فتقرر أنه عمى وانطماس بصيرة، وأن الهدى دلالة على سلامة الكينونة البشرية من هذا العمى، ودلالة على سلامة القوى المدركة فيها وأن في صفحة هذا الكون من الدلائل ما يبين عن الحق لمن يتفكرون ولمن يعقلون :«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما


الصفحة التالية
Icon