يقفوا بها في وجه هذا القرآن، وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك. وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات. وهم يعلمون أنها مناورات! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب، الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات، للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد! لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا رسول اللّه، معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة، والخروج من حاكمية العباد جملة والفرار إلى ألوهية اللّه وحده وحاكميته. ثم التلقي في هذه العبودية للّه عن محمد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وحده، دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم اللّه!.. وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد - صلى اللّه عليه وسلم - ويخضعون لقيادته وسلطانه وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة، وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة. كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه.. وكان هذا واقعا يشهده الملأ من قريش ويحسون خطره على كيانهم، وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم. لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون - لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم ويؤدون بعض الشعائر التعبدية، بينما ألوهية اللّه في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه. وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة.. ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها وينزعون