ثم قال عز وجل:﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾، فبين سبحانه وجه التحَسِّر عليهم، وسبب ندامتهم ؛ لأن قوله:﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾، وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية، فإنه لما عُمِّم على جميع العباد، حدث إيهام في وجه العموم، فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضُرِبَ بهم المثل، ومن ضُرِب لهم في تلك الحالة الممثل بها، ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم، ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا، فعُلم وجه الحسرة عليهم إجمالاً من هذه الآية، ثم تفصيلاً من قول الله تعالى بعد:﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾(يس: ٣١).
والاستثناء في قوله: ﴿ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ مفرغ من أحوال عامة من الضمير في:﴿ مَا يَأْتِيهِمْ ﴾. أي: ما يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا في حال استهزائهم به. وتقديم ﴿ بِهِ ﴾ على ﴿ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ؛ للاهتمام بالرسول المشعر باستفظاع الاستهزاء به، مع تأتِّي الفاصلة بهذا التقديم، فحصل منه غرضان من المعاني، ومن البديع.
هذا هو المثل الذي ضربه الله عز وجل للمشركين الذين واجهوا دعوة الإسلام في بدايتها بالتكذيب، ضربه لهم في قصة أصحاب القرية المكذبين الذين انتهى أمرهم فجأة بصيحة واحدة أخمدت أنفاسهم، وجعلتهم نسيًا منسيًّا. ويبدأ الحديث بعدها بالتعميم في موقف المكذبين بكل ملة ودين، ويعرض صورة البشرية الضالة على مدار القرون، وينادي على العباد نداء الحسرة وهم لا يتعظون بمصارع الهالكين الذين يذهبون أمامهم، ولا يرجعون إلا يوم الدين. (١)
- - - - - - - - - - - - - -

(١) - بقلم الأستاذ محمد عتوك -الباحث في الإعجاز البياني والبلاغي في القرآن


الصفحة التالية
Icon