ولايعني هذا أنه لا يوجد على الإطلاق مستشرقون منصفون، وإنما المقصود أن الصفة العامة والمشتركة بين المستشرقين هي عدم الإنصاف وعدم الموضوعية في الإسلاميات. ولكن لابد أن يشار في هذا المجال إلى حقيقة تاريخية وهي أن كثيراً من المؤرخين تغلب عليهم صفة إطلاق الأحكام العامة والشاملة وعدم الدقة في بعض من الأحيان في إصدار الأحكام، أو في نقل الروايات المتناقضة في الحادثة الواحدة من غير تمييز الصحيح منها من السقيم، فربما يأخذ بواقعة معينة ويبني عليها حكماً عاماً تخالفه وقائع أخرى، وهو ما سيظهر في الدراسة هذه بشكل جلي وواضح، وقد مهّد هذا التوجه لأن يبني المستشرقون على ماصدر من المؤرخين المسلمين من هذا القبيل شبهات خطيرة وافتراءات تمس صلب الإسلام والقرآن الكريم وشخصية الرسول ﷺ، فنجد أن جل الشبهات والافتراءات التي تمسك بها المستشرقون قد كان لها أصل في بعض كتب المسلمين.
ومن الأخطاء التي صدرت عن بعض المستشرقين من أمثال بلاشير(٢) ادعاء أن النبي ﷺ لم يعط أهمية لكتابة النص القرآني في حياته، ولاسيما في العهد المكي الذي امتد حوالي ثلاثة عشر عاماً، وبقي مفهوم القرآن المكي النازل بمكة والمحفوظ في ذاكرة المسلمين المكيين. وإنما بدأ بكتابة المقاطع الهامة من القرآن المنزل عليه في السنوات الأولى من العهد المدني.
وبما أن هذا الموضوع لم تتم دراسته من قبل بشكل مستقل ومفصل فقد صدر من عدد من الباحثين المسلمين ما يفهم منه بأن القرآن المكي لم يكتب، وأن النبي ﷺ قد بدأ بكتابة القرآن بشكل فعلي في أوائل العهد المدني.
ومن جانب آخر حاول بعض الباحثين المسلمين إثبات كتابة القرآن الكريم في العهد المكي والرد على مثل هذه الادعاءات، إلا أنه لم تتضح الصورة عند بعضهم، وصرح بعضهم بأن المسألة لا تزال غير واضحة عندنا(٣)، وقال آخرون إن النصوص التي بين أيدينا لا تثبت الكتابة في العهد المكي على وجه قاطع(٤).
أهمية البحث
تكمن أهمية هذا البحث في نقاط عديدة منها :
١. توضيح مسألة كتابة القرآن الكريم في العهد المكي، وفي الوقت نفسه الرد على من ذهب إلى أن القرآن الكريم لم يكتب إلا في السنوات الأولى من العهد المدني، بقصد إثارة الشبهات حول سلامة النص القرآني وحفظه من الضياع، بناء على أن القرآن المكي يمثل ثلثي القرآن الكريم تقريباً.