وربما تتضح الصورة أكثر إذا ما عرفنا سبب النزول كما نقلته كتب التفسير والسيرة النبوية. فقد ذهب المفسرون والمؤرخون إلى أن هذه الآية نزلت في بعض مَنْ كان يقول ذلك، مثل : النضر بن الحارث(١)، الذي >كان إذا جلس رسول اللّه ﷺ مجلساً فدعا فيه إلى اللّه، وتلا فيه القرآن، وحذر فيه قريشاً ما أصاب الأمم الخالية ـ خلفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم السنديد، وعن اسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول : واللّه ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها<. فأنزل اللّه فيه :﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾(٢).
٤. طَلَبُ المشركين مكتوباً من السماء : من خلال الآيات القرآنية المكية يتبين أن معرفة أهل مكة بالكتابة والقراءة كانت عميقةً بدليل أنهم طالبوا الرسول ﷺ بآيات ومعجزات تقنعهم بنبوته، ومن هذه الآيات والمعجزات، أن ينزل عليهم كتاباً من السماء يقرؤونه. قال تعالى :﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً. أوْ تَكُوْنَ لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيْلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّر الأَنهَارَ خِلالَها تَفْجِيْراً. أوْ تُسْقِطَ عَلينا كسَفاً أو تَأتِيَ باللّه وَالمَلائِكَةِ قَبِِْيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى ُتُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ﴾(٣).
حيث إن المشركين طلبوا من الرسول ﷺ أن يرقى في السماء ويأتيهم بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون للرسول ﷺ أنه صادق فيما يدعيه(٤). فكيف يعقل أن يطالبوا الرسول ﷺ بإنزال الكتاب ليقرؤوا ما فيه ويتأكدوا من صحة ذلك، إذا لم يكونوا على علم ودراية تامة بالكتاب والكتابة والقراءة. وكأنهم لم يقتنعوا بالصحف التي اتهموا الرسول باستكتابها فطلبوا كتاباً كاملاً.
٥. الرَقّ : وقد جاء الرَقّ في قوله تعالى :﴿ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُور ﴾(١).
يقول الزمخشري : والرَقّ : جلد رقيق يكتب عليه، والصحيفة البيضاء(٢). وكتاب مسطور : أي مكتتب قد سطر(٣).