ويليه تنزيل سورة الأنعام فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد، وأُصول الدين، وقد خرَّج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلّمون، من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة... ثم لما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام؛ فإنها بيّنت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبيّن في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها.
وأيضا فإن حفظ الدين فيها، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها، وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها، كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيا عليها، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك، حذو القذة بالقذة، فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى؛ فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه"(١).
التعليق على مبحث: المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً على المكي في الفهم
التعليق على هذا المبحث من وجهين:
الأوّل: أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي قد سبق من كتب في علوم القرآن - وتعرض للمكي والمدني - إلى دراسة هذه المسألة(٢).
ومن كتب في هذا المبحث فهو تبع للإمام أبي إسحاق الشاطبي، على أن أهمّ كتابين متداولين في علوم القرآن لم يتعرض مؤلّفاهما لهذا المبحث بهذه الطريقة التي سلكها أبو إسحاق(٣).
(٢) وهذا حسب ما اطلعت عليه.
(٣) أعني البرهان في علوم القرآن للزركشي، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي.