عليها في شؤون الدفاع والمعاش، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة، كأن يكون رب المطر والإقليم في حاجة إليه، أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية.
«وفي الدور الثالث تتوحد الأمة، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة. ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها، ويحدث أيضا أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلها، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع، والحاشية للملك المطاع.
«ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلّا بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة، ويتعذّر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية، فتصف اللّه بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة اللّه وحكمته العالية، وكثيرا ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية...»
إلخ.
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية. وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال..
وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه :«موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية، منذ أن اتخذ الإنسان ربا، إلى أن عرف اللّه الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد»..
والذي لا شك فيه أن اللّه سبحانه يقرر في كتابه الكريم، تقريرا واضحا جازما، شيئا آخر غير ما يقرره صاحب كتاب :«اللّه» متأثرا فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة.. وأن الذي يقرره اللّه - سبحانه - أن آدم وهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية، وعرف الدينونة للّه وحده باتباع ما يتلقى منه وحده. وأنه عرّف بنيه بهذه العقيدة، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام دينا، وإلا التوحيد عقيدة.. وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد.. ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد.. ودانت لشتى الأرباب الزائفة...
حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعا ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون «نزاهة التوحيد» وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية! ولنا أن نجزم أن أجيالا من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك


الصفحة التالية
Icon