وبالفاء التعقيبية يعبر كذلك. فالعذاب لم يتأخر :«فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ»..
فلما جاء موعد تحقيق الأمر - وهو الإنذار أو الإهلاك - نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا..
خاصة ومباشرة.. نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم، فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهدا مخزيا.
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ»..
يأخذ العتاة أخذا ولا يعز عليه أمر، ولا يهون من يتولاه ويرعاه.
ثم يعرض السياق مشهدهم، معجّبا منهم، ومن سرعة زوالهم :«كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها»..
كأن لم يقيموا ويتمتعوا.. وإنه لمشهد مؤثر، وإنها للمسة مثيرة، والمشهد معروض، وما بين الحياة والموت - بعد أن يكون - إلا لمحة كومضة العين، وإذا الحياة كلها شريط سريع. كأن لم يغنوا فيها...
ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة : تسجيل الذنب، وتشييع اللعنة، وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى :« أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ. أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!»..
ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ.. الدعوة فيها هي الدعوة. وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته.. عبادة اللّه وحده بلا شريك، والدينونة للّه وحده بلا منازع.. ومرة أخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد - فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح - ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد..
ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها، لا بالإيمان والتصديق، ولكن بالجحود وعقر الناقة! ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا.
فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا. فما أغنت معهم شيئا! إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق.
إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول. ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول :!!! ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. قلوب الرسل الكرام.


الصفحة التالية
Icon