في هذه الأرض. إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام.. وهكذا إلى يومنا هذا..
والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد. وردهم إلى الدينونة للّه وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.
إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة... إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن اللّه سبحانه في حاجة إليه، فاللّه سبحانه غني عن العالمين.
ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة «بالإنسان» إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها. (و هذا ما نرجو أن نزيده بيانا - إن شاء اللّه - في نهاية قصص الرسل في ختام السورة)..
ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم :«وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ».. وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وذلك في قوله تعالى :«وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ»..
إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين.. وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها..
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية اللّه - سبحانه - والحق الذي خلقت به السماوات والأرض، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية.. والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية اللّه - سبحانه - والحق الذي قامت به السماوات والأرض والحق المتمثل في الدينونة للّه وحده.. والحق المتمثل في دينونة الناس للّه يوم الحساب بصفة خاصة،


الصفحة التالية
Icon