شرائعه التي جاءت بها رسله، يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر، ليتأكد من صواب تقديره أو خطئه عن طريق الميزان الثابت الذي لا تعصف به الأهواء. ولم يجعل الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان، ولكن مبلغين ليس عليهم إلا البلاغ، يأمرون بعبادة اللّه وحده واجتناب كل ما عداه من وثنية وهوى وشهوة وسلطان :«وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ»..
ففريق استجاب :«فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ» وفريق شرد في طريق الضلال «وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ»..
وهذا الفريق وذلك كلاهما لم يخرج على مشيئة اللّه، وكلاهما لم يقسره اللّه قسرا على هدى أو ضلال، إنما سلك طريقه الذي شاءت إرادة اللّه أن تجعل إرادته حرة في سلوكه، بعد ما زودته بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق.
كذلك ينفي القرآن الكريم بهذا النص وهم الإجبار الذي لوح به المشركون، والذي يستند إليه كثير من العصاة والمنحرفين. والعقيدة الإسلامية عقيدة ناصعة واضحة في هذه النقطة. فاللّه يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا عقوبات ظاهرة يتضح فيها غضبه عليهم. فلا مجال بعد هذا لأن يقال : إن إرادة اللّه تتدخل لترغمهم على الانحراف ثم يعاقبهم عليه اللّه! إنما هم متروكون لاختيار طريقهم وهذه هي إرادة اللّه. وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر. من هدى ومن ضلال. يتم وفق مشيئة اللّه على هذا المعنى الذي فصلناه.
ومن ثم يعقب على هذا بخطاب إلى الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - يقرر سنة اللّه في الهدى والضلال :«إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ».
فليس الهدى أو الضلال بحرص الرسول على هدى القوم أو عدم حرصه، فوظيفته البلاغ. أما الهدى أو الضلال فيمضي وفق سنة اللّه وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها، فمن أضله اللّه لأنه استحق الضلال وفق سنة اللّه، فإن اللّه لا يهديه، لأن للّه سننا تعطي نتائجها. وهكذا شاء. واللّه فعال لما يشاء. «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ينصرونهم من دون اللّه.
ومقولة ثالثة من مقولات المنكرين المستكبرين :« وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ. بَلى. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ. إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ»..
ولقد كانت قضية البعث دائما هي مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام منذ أن أرسل اللّه رسله للناس، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويخوفونهم حساب اللّه يوم البعث والحساب.