إنهم يحاولون التهرب حين تحاصرهم الحجج، وتتهافت بين أيديهم الأسطورة. فيحيلون على مشيئة اللّه، يزعمون أن اللّه راض عن عبادتهم للملائكة ولو لم يكن راضيا ما مكنهم من عبادتهم، ولمنعهم من ذلك منعا! وهذا القول احتيال على الحقيقة. فإن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة اللّه. هذا حق. ولكن من مشيئة اللّه أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال. وكلفه اختيار الهدى ورضيه له، ولم يرض له الكفر والضلال. وإن كانت مشيئة أن يخلقه قابلا للهدى أو الضلال.
وهم حين يحيلون على مشيئة اللّه إنما يخبطون خبطا فهم لا يوقنون أن اللّه أراد لهم أن يعبدوا الملائكة - ومن أين يأتيهم اليقين؟ - «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».. ويتبعون الأوهام والظنون.
«أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ؟»..
يستندون إليه في دعواهم، ويستندون إليه في عبادتهم، ويستمسكون بما فيه من حقائق، ويرتكنون إلى ما عندهم فيه من دليل!!
وهكذا يأخذ عليهم الطريق من هذه الناحية ويوحي إليهم كذلك أن العقائد لا يخبط فيها خبط عشواء، ولا يرتكن فيها إلى ظن أووهم. إنما تستسقى من كتاب من عند اللّه يستمسك به من يؤتاه.
وعند هذا الحد يكشف عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة المتهافتة التي لا تقوم على رؤية، ومزاولة هذه العبادة الباطلة التي لا تستند إلى كتاب :
«بَلْ قالُوا : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ»..
وهي قولة تدعو إلى السخرية، فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة. إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل. وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع بمضي حيث هو منساق ولا يسأل :
إلى أين نمضي؟ ولا يعرف معالم الطريق! والإسلام رسالة التحرر الفكري والانطلاق الشعوري لا تقر هذا التقليد المزري، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازا بالإثم والهوى. فلا بد من سند، ولا بد من حجة، ولا بد من تدبر وتفكير، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين.
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم مصائر الذين قالوا قولتهم تلك واتبعوا طريقهم في المحاكاة والتقليد، وفي الإعراض والتكذيب، بعد الإصرار على ما هم فيه على الرغم من الإعذار والبيان! «وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ : فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»..


الصفحة التالية
Icon