فقد كان فيها النصر والعز والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلطين. ولقد جاءت لهم بملك داود، ثم ملك سليمان - وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى..
وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لا نتفاضة العقيدة من تحت الركام وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت! وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين :
من ذلك.. أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها. فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.. فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل - من ذوي الرأي والمكانة فيهم - إلى نبيهم في ذلك الزمان، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون. فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال، وقال لهم :«هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا!» استنكروا عليه هذا القول، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له :«وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا؟»..
ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة وكما يقول السياق بالإجمال :«فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ».. ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق.. إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب.. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل.. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.. فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم. ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها. وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة اللّه باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة...!
ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى. وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم :«فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ : إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ : فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي - إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ - فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ».. وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية.


الصفحة التالية
Icon