ولكن في صورة أخرى ومشهد آخر.. إن الذين كذبوا بآيات اللّه هذه المبثوثة في صفحات الوجود، وآياته الأخرى المسجلة في صفحات هذا القرآن، إنما كذبوا لأن أجهزة الاستقبال فيهم معطلة.. إنهم صم لا يسمعون، بكم لا يتكلمون، غارقون في الظلمات لا يبصرون! إنهم كذلك لا من ناحية التكوين الجثماني المادي. فإن لهم عيونا وآذانا وأفواها.. ولكن إدراكهم معطل، فكأنما هذه الحواس لا تستقبل ولا تنقل!.. وإنه لكذلك فهذه الآيات تحمل في ذاتها فاعليتها وإيقاعها وتأثيرها، لو أنها استقبلت وتلقاها الإدراك! وما يعرض عنها معرض إلا وقد فسدت فطرته، فلم يعد صالحا لحياة الهدى، ولم يعد أهلا لذلك المستوي الراقي من الحياة.
ووراء ذلك كله مشيئة اللّه.. المشيئة الطليقة التي قضت أن يكون هذا الخلق المسمى بالإنسان على هذا الاستعداد المزدوج للهدى والضلال، عن اختيار وحكمة، لا عن اقتضاء أو إلزام.. وكذلك يضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم. بمشيئته تلك، التي تعين من يجاهد، وتضل من يعاند. ولا تظلم أحدا من العباد.
إن اتجاه الإنسان إلى طلب الهدى، أو اتجاهه إلى الضلال، كلاهما ينشأ من خلقته التي فطره اللّه عليها بمشيئته. فهذا الاتجاه وذاك مخلوق ابتداء بمشيئة اللّه. والنتائج التي تترتب على هذا الاتجاه وذاك من الاهتداء والضلال إنما ينشئها اللّه بمشيئته كذلك. فالمشيئة فاعلة ومطلقة. والحساب والجزاء إنما يقومان على اتجاه الإنسان. الذي يملكه، وإن كان الاستعداد للاتجاه المزدوج هو في الأصل من مشيئة اللّه..
والآن بعد الانتهاء من استعراض هذه الموجة من السياق، نقف وقفة قصيرة لاستخلاص عبرة التوجيه فيها لكافة أصحاب الدعوة إلى هذا الدين في كل جيل، فإن مدى التوجيه فيها يتجاوز المناسبة التاريخية الخاصة، وينسحب على جميع الأجيال، وجميع الدعاة، ويرسم منهجا للدعوة إلى هذا الدين، لا يتقيد بالزمان والمكان.
ونحن لا نملك هنا أن نفصل كل جوانب هذا المنهج، فنقف منه إذن عند معالم الطريق :
إن طريق الدعوة إلى اللّه شاق، محفوف بالمكاره، ومع أن نصر اللّه للحق آت لا ريب فيه، إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره اللّه، وفق علمه وحكمته، وهو غيب لا يعلم موعده أحد - حتى ولا الرسول - والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين : من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر، والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة.. ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه، وعرف طعمه، والحماسة للحق والرغبة في استعلانه! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى. فكلها من دواعي مشقة الطريق! والتوجيه القرآني في هذه الموجة من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها.. ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته، يعلمون علم اليقين أن ما يدعون