والذين يفسرونه تفسيرا «روحيا» أو «نفسيا». والذين يفسرونه تفسيرا «عقليا»... كل أولئك ينظرون نظرة ساذجة إلى جانب واحد من جوانب العوامل المتشابكة، والعوالم المتباعدة، التي يتعامل معها الإنسان ويتألف من تعامله معها تاريخه.. والتفسير الإسلامي للتاريخ هو وحده الذي يلم بهذا الخضم الواسع، ويحيط به وينظر إلى التاريخ الإنساني من خلاله.
ونحن هنا أمام مشاهد صادقة من هذا الخضم.. لقد شهدنا مشهد النشأة البشرية وقد تجمعت في المشهد كل العوالم والآفاق والعناصر - الظاهرة والخفية - التي يتعامل معها هذا الكائن منذ اللحظة الأولى.. ولقد شهدنا هذا الكائن باستعداداته الأساسية.. شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى وإسجاد الملائكة له والبارئ العظيم يعلن ميلاده.. وشهدنا ضعفه بعد ذلك وكيف قاده منه عدوه.. وشهدنا مهبطه إلى الأرض.. وانطلاقه في التعامل مع عناصرها ونواميسها الكونية..
ولقد شهدناه يهبط إلى هذه الأرض مؤمنا بربه مستغفرا لذنبه مأخوذا عليه عهد الخلافة : أن يتبع ما يأتيه من ربه ولا يتبع الشيطان ولا الهوى، مزودا بتلك التجربة الأولى في حياته..
ثم مضى به الزمن وتقاذفته الأمواج في الخضم وتفاعلت تلك العوامل المعقدة المتشابكة في كيانه ذاته وفي الوجود من حوله. تفاعلت في واقعه وفي ضميره. ثم ها نحن أولاء في هذا الدرس نشهد كيف صارت به هذه العوامل المعقدة المتشابكة إلى الجاهلية!!! إنه ينسى.. وقد نسي.. إنه يضعف.. وقد ضعف.. إن الشيطان يغلبه.. وقد غلبه.. ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى!!! لقد هبط إلى هذه الأرض مهتديا تائبا موحدا.. ولكن ها نحن أولاء نلتقي به ضالا مفتريا مشركا!!! لقد تقاذفته الأمواج في الخضم.. ولكن هنا لك معلما في طريقه.. هنا لك الرسالة ترده إلى ربه. فمن رحمة ربه به أن لا يتركه وحده! وها نحن أولاء في هذه السورة نلتقي بموكب الإيمان، يرفع أعلامه رسل اللّه الكرام : نوح. وهود.
وصالح. ولوط. وشعيب. وموسى. ومحمد - صلوات اللّه وسلامه عليهم جميعا.. ونشهد كيف يحاول هذا الرهط الكريم - بتوجيه اللّه وتعليمه - إنقاذ الركب البشري من الهاوية التي يقوده إليها الشيطان، وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان. كما نشهد مواقف الصراع بين الهدى والضلال.
وبين الحق والباطل، وبين الرسل الكرام وشياطين الجن والإنس.. ثم نشهد مصارع المكذبين في نهاية كل مرحلة، ونجاة المؤمنين، بعد الإنذار والتذكير..
والقصص في القرآن لا يتبع دائما ذلك الخط التاريخي. ولكنه في هذه السورة يتبع هذا الخط. ذلك أنه يعرض سير الركب البشري منذ النشأة الأولى، ويعرض موكب الإيمان وهو يحاول هداية هذا الركب واستنقاذه كلما ضل تماما عن معالم الطريق، وقاده الشيطان كلية إلى المهلكة ليسلمه في نهايتها إلى الجحيم!