في ضمير هذا الوجود.. وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيدا عن حقيقتها الأصيلة..
وهذه هي اللمسة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به.
«لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قالَ : يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنْصَحُ لَكُمْ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ، وَلِتَتَّقُوا، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ؟ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ»..
تعرض القصة هنا باختصار، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات، كالذي جاء في سورة هود، وفي سورة نوح.. إن الهدف هنا هو تصوير تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفا.. طبيعة العقيدة. طريقة التبليغ. طبيعة استقبال القوم لها. حقيقة مشاعر الرسول. تحقق النذير.. لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم، على منهج القصص القرآني.
«لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ».. على سنة اللّه في إرسال كل رسول من قومه، وبلسانهم، تأليفا لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم، وتيسيرا على البشر في التفاهم والتعارف. وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة، ولا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة. وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى، مهما جاءهم من أي طريق! لقد أرسلنا نوحا إلى قومه، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول :«فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».
فهي الكلمة التي لا تتبدل، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ووحدة الرباط. وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد.
إن دين اللّه منهج للحياة، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها للّه. وهذا هو معنى عبادة اللّه وحده، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره.. والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة اللّه وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة اللّه وقدره.
وعلى نفس المستوي يتمثل في الاعتقاد بربوبية اللّه لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية، وقيامها على شريعته وأمره، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده.. كلها حزمة واحدة.. غير قابلة


الصفحة التالية
Icon