مؤرخو تلك المرحلة الجدل الذي وقع بين سيد قطب ومالك بن نبي ـ يرحمهما الله ـ عندما أعلن سيد قطب عن كتابه الجديد " نحو مجتمع إسلامي متحضر " ثم رأى أن يغير عنوان الكتاب قبيل الطبع إلى " نحو مجتمع إسلامي " ومنع كلمة " متحضر " لأنه اعتبر أن وصف الإسلام بذاته يشمل التحضر ويعني التحضر الحقيقي، مالك تصور أن هذا تكلف من سيد قطب وتوتر فكري لا مبرر له، ولكن الحقيقة أن هذا كان تناسقًا طبيعيًّا مع مشروع سيد قطب الفكري والروحي، الذي لا يرى الإسلام بحاجة إلى دفاع أو تزويق أو تزيين، هو بذاته النور وهو الحضارة وهو صانع إنسانية الإنسان المتوافقة مع فطرته وجوهر روحه والضامنة أيضًا لتوافق الإنسان مع الكون كله بشجره وحجره وأرضه وسمائه، وإذا كان عالم المسلمين قد حرم من شيء من ذلك، فتلك مشكلتهم هم لا مشكلة الإسلام.
هذه الروح الجديدة التي كتب بها سيد قطب، نقلت مشاعر الجيل الجديد من المسلمين إلى عالم إنساني مدهش، ينظر باستعلاء حقيقي إلى الواقع المحيط به، ويسقط الهالة المقدسة عن رموز فكرية كبيرة في دنيا العرب والمسلمين، ويجمع على الإنسان المسلم المعاصر لأول مرة شعوره وفكره في صعيد واحد، يجعله أكثر ثقةً في مستقبله ومستقبل أمته، وأكثر رسوخًا في إيمانه بنور الله وهدي نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأكثر إصرارًا على إعادة الاعتبار إلى شريعة الله وحكمه؛ لكي يكون مرجعية الحياة كل الحياة في عالم الإنسان، ولقد كان سيد قطب - ككل مفكر عقدي يمثل لحظة فارقة في تاريخ أمته-حاسمًا في فصله بين الفكر الإسلامي وغيره من الأفكار التي تتأسس على غير هدى الله ونوره من النظريات المنحرفة أو المناهج الباطلة أو القوانين المصادمة لحكم الله وشرعه، لم يتردد لحظة في وصف ذلك كله بـ"الجاهلية"، وهو مصطلح إسلامي أصيل يختزل في دلالاته معاني البعد عن هدي الله ونوره مع الحمق مع الجهالة مع قصر نظر الإنسان.
وللأمانة فإنه من الصعب أن يجد الإنسان المسلم مصطلحًا آخر يؤدي هذه الصفات والدلالات مجتمعة في الحالة الإنسانية التي صاغتها ورسختها الحضارة الغربية ولوثت بها ـ على قدر متفاوت ـ بقاع الأرض كلها، ولا يضير سيد قطب أن يكون هناك من الشباب الإسلامي من أساء استعمال المصطلح أو أخذه إلى غير رسالته، وحاول أن يؤسس به فقهًا جديدًا أو منهجًا عقديًّا أصوليًّا جديدًا يفرز به الواقع، أو من حاول أن يجعله منطلقًا لفتاوى مستهترة أو متعجلة أو متطرفة في تعاملها مع الواقع، وكل ذلك حدث بالفعل، ولكنه وزر من أخطأ به، وليس وزر سيد قطب وعطائه ورسالته، وهي نفس الاندفاعات التي جعلت طوائف من الجيل الثاني في الإسلام تسيء التعامل مع نصوص القرآن والسنة ذاتها، فانتهى بها إلى تكفير صحابة رسول الله والتأسيس لمنهج الخوارج بكل عواقبه وتراثه الكئيب في تاريخ الإسلام.
يخطئ من يتصور أن مشروع سيد قطب قد انتهى أو أن واقعه وزمانه قد تجاوزه عالم الواقع وعالم الفكر، ومن يتصور ذلك لا يبعد كثيرًا عن فهم الغلاة في سيد قطب، الذين حوّلوه إلى مجرد نصوص