وإن للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله. وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى )إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا( إلى قوله )إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا( إلى قوله )وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا( فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله )إن للمتقين مفازا( أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز. ثم كان قوله )لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا( ما يحتمل لضمير فيها من قوله )لا يسمعون فيها( أن يعود إلى )كأسا دهاقا( وتكون في للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج، وان يعود إلى )مفازا( بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون في للظرفية الحقيقية أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة )مفازا(. ولم يؤخر )وكأسا دهاقا( ولم يعقب بجملة )لا يسمعون فيها لغوا( الخ.