وأعد من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية، فلم يأت بعموميات شأنها التخصيص غير مخصوصة، ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة. مثاله قوله تعالى )لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون( وقوله )ومن أضل ممن اتبع هواه هدى من الله( فبين أن الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى، وقوله )إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا(.
ومنها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف وقد أومأ إليها في الكشاف إيماء.
ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة، وفي تمثيل الأحوال، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب إذ كان فن القصص مفقودا من أدب العربية إلا نادرا، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحية التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر بها، فلما جاء القرآن بالأوصاف بهت به العرب كما في سورة الأعراف من وصف أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف )ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار( إلخ وفي سورة الحديد )فضرب بينهم بسور( الآيات.
ومما يتبع هذا أن القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت فيها، فهو إذا حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية، وإذا حكى أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب المعبر مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم بل يحكي حاصل كلامهم، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية.