وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع أيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداءا قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى )ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا( وقال )أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنا عن دراستهم لغافلين، أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم( لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.
أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور: الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى )فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب( فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.