من هنا يتجلى لنا مدى استشعارِ السلفِ لعظمةِ القرآنِ، وهيبتُهُم وإجلالُهُم لعلمِ التفسيرِ، مما دفعهم إلى الحرصِ والاجتهادِ، والمُثابرةِ مع الهمَّةِ العالية، واستشعارِ المفسِّرِ بأهميةِ التفسيرِ وشرفِهِ العظيمِ حيثُ يحملُهُ على أن يقبل عليه بتجرُّدٍ وإخلاص، تاركاً حظوظ النفس، وزاهدا في عَرَضِ الدنيا الزائل وأن يجمع همَّته في رضا الله تعالى ويكون هدفُهُ أن يفهمَ معاني كلام الله أولا لينتفعَ بها ثم يبلِّغَ هذا الفهمَ وينشرَ هذا العلمَ ليكونَ ذُخْرًا له يومَ الدين.
وانطلاقا من هذا الهدفِ السامِي طَلَبَ سلفُنَا العلمَ النافعَ : قال الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ : مَا تَعلَّمْتُ العِلْمَ إِلاَّ لِنَفْسِي، وَمَا تَعلَّمتُ لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَيَّ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ. (٩)
ومع ذلك وبإخلاصه وورَعِهِ وهمَّتِهِ العالية : ضَرَبَ الناسُ أكبادَ الإبلِ طلبًا لعلمِهِ رحمه الله، وقد ورد عن بعضِ العلماءِ رحمهم الله :" طلبنا العلمَ لغيرِ اللهِ فأبى العلمُ إِلا أنْ يكونَ لله " (١٠)، فالنيةُ أساسُ العمل وتمامُهُ.
ثانيا : الاستعانة بالله تعالى على فهم كلامه.
إذا كان علم التفسير من أجلِّ العلوم وأشرفها فإنه من أجلِّ النعم وأعظمها، لذا ينبغي على كلِّ من طَرَقَ هذا البابَ أن يستعينَ بالعزيز الوهاب، وأن يتوجَّه إليه سبحانه بإخلاصٍ وتجرُّدٍ كي يفتحَ عليه ويبصِّرَهُ بكلامه تعالى، فالعلمُ والفهمُ فضلٌ إلهيٌّ، والحكمةُ عطاءٌ ربانيٌّ.
قال الحارثُ المحاسِبيُّ رحمه اللهُ :" فإذا أقبلتَ على اللهِ تعالى بصدقِ نيةٍ ورغبةٍ لفهمِ كتابِهِ باجتماعِ هَمٍّ مُتَوَكِّلا عليهِ أَنَّهُ هُوَ الذي يفتحُ لك الفهمَ لا على نفسِكَ فيما تطلبُ ولا بما لَزِمَ قلبَكَ مِنَ الذكرِ لم يخيبْك من الفهمِ والعقلِ عنه إِنْ شاءَ اللهُ " (١١).


الصفحة التالية
Icon