ثالثها: قال البيهقي في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ يريد والله أعلم إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع اهـ. ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الله سماعا. وذلك فيما أرى أمثل الأقوال من ناحية أخذ جبريل عن الله لا من ناحية تأويل النزول في الآية بابتداء النزول. ويؤيده ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله بوحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها: ما قال ربنا؟ قال: الحق فينتهي به حيث أمر".
وأيا ما تكن هذه الأقوال فإن هذا الموضوع لا يتعلق به كبير غرض ما دمنا نقطع بأن مرجع التنزيل هو الله تعالى وحده.
ما الذي نزل به جبريل؟
ولتعلم في هذا المقام أن الذي نزل به جبريل على النبي ﷺ هو القرآن باعتبار أنه الألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده لا دخل لجبريل ولا لمحمد في إنشائها وترتيبها بل الذي رتبها أولا هو الله سبحانه وتعالى ولذلك تنسب له دون سواه وإن نطق بها جبريل ومحمد وملايين الخلق من بعد جبريل ومحمد من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة. وذلك كما ينسب الكلام البشري إلى من أنشأه ورتبه في نفسه أولا دون غيره ولو نطق به آلاف الخلائق في آلاف الأيام والسنين إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فالله جلت حكمته هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتفهم كما نبرز نحن كلامنا اللفظي على وفق كلامنا النفسي