كان الوزير متفرغاً في بداياته لطلب العلم، ولم يجلس للتدريس والتصنيف إلا بعد توليه الوزارة، وهو في قمة نضجه العلمي، على أنه كان مؤصِّلاً في طرق التعلم حيث يقول: (( يحصل العلم بثلاثة أشياء، أحدها: العمل به؛فإن من كلَّف نفسه التكلم بالعربية دعاه ذلك إلى حفظ النحو، ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع تعلَّم.
والثاني: التعليم؛فإنه إذا علَّم الناس كان أدعى إلى تعليمه.
والثالث: التصنيف؛فإنه يخرجه إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يدرك غوار ذلك الذي صنف فيه(١))).
وقد سلك ابن هبيرة هذا المسلك فطلب العلم أول حياته، ثم لما تمكن ورسخت قدمه علَّم وصنف، فنفع الله به وبقي ذكره إلى يومنا هذا.
وقد ظهرت مكانة ابن هبيرة العلمية بعد توليه الوزارة فإنه أقام مجلسا علميا يُقرأ فيه كل يوم الحديث ويعلِّق هو عليه، وكان مجلساً حافلاً بالعلماء وطلبة العلم والعامة ساعد في ذلك ما بلغه الوزير من تحصيل للعلوم حيث أخذ من كل فن طرفاً، كما ألَّف في فنون متعددة كتباً مستقلة أو أجزاء من كتب.
فأما مجلسه العلمي فقد كان يُعقد بعد العصر في بيته لقراءة الحديث، يملي فيه شرحه للجمع بين الصحيحين للحميدي المسمى ( الإفصاح عن معاني الصحاح ) ويدور فيه مناقشات بين العلماء والأدباء، وقد جمع الوزير لهذا الشرح علماء المذاهب، إذ اعتنى فيه بالخلاف الفقهي للأئمة الأربعة وبرع فيه، مما كان له الأثر الأكبر فيمن جاء بعده من العلماء فقلَّما يوجد من يؤلف في الفروع والفقه المقارن بين المذاهب إلا ويرجع إلى كتابه ( الإفصاح عن معاني الصحاح ) خاصة الجزء الذي سطره في المقارنة بين المذاهب، لحسن تحريره ولإقرار علماء المذاهب في وقته حيث جمعهم الوزير عليه(٢).
(٢) ينظر: خريدة القصر(١/٩٨)، المنتظم(١٠/٢١٥)، الذيل على طبقات الحنابلة(١/٢٥٢)...