وقد أفاد القرطبي من الزجاج في كثير من القضايا ومن أهمها :
أ - التفسير :
ففي قوله تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (١)، قال :" قال الزجاج :" وموعظة للمتقين " لأمة محمد - ﷺ -، أن ينتهكوا من حُرَم الله
جل وعز ما نهاهم عنه، فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذا انتهكوا حُرَم الله في سبتهم " (٢).
وفي قوله تعالى :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ﴾ (٣)، قال :" ومعنى : تقلب وجهك : تحول وجهك إلى السماء قاله الطبري(٤)، وقال الزجاج : تقلب عينيك في النظر إلى السماء(٥)، والمعنى متقارب "(٦).
ب - علوم القرآن :
نقل عنه في بعض قضايا علوم القرآن، ومن ذلك نقله عنه في المناسبات بين الآيات القرآنية، فقد قال في تفسير آخر سورة البقرة :" قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة وبين أحكام الحج، وحكم الحيض والطلاق والإيلاء، وأقاصيص الأنبياء، وبين حكم الربا ختم السورة بذكر تعظيمه سبحانه بقوله :" لله ما في السموات وما في الأرض "(٧)، ثم تصديق نبيه - ﷺ -، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك، فقال :﴿ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾ (٨)"(٩).
جـ - علوم اللغة المختلفة :

(١)... البقرة : ٦٦.
(٢)... تفسير القرطبي ١/٤٤٤ مع معاني القرآن وإعرابه ١/١٤٩.
(٣)... البقرة : ١٤٤.
(٤)... تفسير الطبري ٢/١٩.
(٥)... معاني القرآن وإعرابه ١/٢٢١.
(٦)... تفسير القرطبي ٢/١٥٨.
(٧)... البقرة : ٢٨٤.
(٨)... البقرة : ٢٨٥.
(٩)... تفسير القرطبي ٣/٤٢٦، معاني القرآن وإعرابه ١/٣٦٨.

جـ - يستعين الزجاج بأقوال اللغويين والنحويين في تدعيم القول الذي اختاره، ومن ذلك لما اختار قراءة النصب في قوله تعالى ﴿ (#qà)¨؟$#ur ©!$# "د%©!$# tbqن٩uن!$|،s؟ ¾دmخ/ tP%tnِ'F{$#ur ﴾ (١)، وانتقد قراءة الجر(٢)، استشهد على اختياره هذا : بأن أهل العربية يستقبحون أن ينسق باسم ظاهر على اسم مضمر إلا بإظهار الجر، حيث يستقبح النحويون : مررت به وزيد، وبك وزيد إلا مع إظهار الخافض حيث يقال :" بك وبزيد " (٣)، والزجاج هنا يستشهد بالنحويين وأهل اللغة عامة على تقوية القراءة التي اختارها، وسيأتي الحديث عن اختياراته بين القراءات، وانتقاده القراءات الثابتة.
وفي قوله تعالى ﴿ دMs٩$s%ur كٹqكgu‹ّ٩$# يچ÷ƒt"مم كûَّ$# "!$# ﴾ (٤)، قال : قرئت :" عزير " بالتنوين، وبغير تنوين(٥)، والوجه إثبات التنوين لأن ابناً خبر " ثم أخذ الزجاج يعلل لذلك، ثم ذكر ما يقوي اختياره: بأن إثبات التنوين أجود عند النحويين(٦).
(١)... النساء : ١.
(٢)... قرأ حمزة بالجر في قوله " والأرحام " وقرأ باقي العشرة بالنصب، انظر : الكنز في القراءات العشر ص١٤٥، النشر ٢/١٨٦.
(٣)... معاني القرآن وإعرابه ٢/٦، وسيأتي الحديث عن انتقاد الزجاج للقراءات الثابتة ومنها هذه القراءة في الحديث عن اختياراته المتعلقة بالقراءات.
(٤)... التوبة : ٣٠.
(٥)... قرأ عاصم والكسائي ويعقوب بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين، انظر : النشر ٢/٢٠٩.
(٦)... معاني القرآن وإعرابه ٢/٤٤٢.

أكثر الزجاج من اعتماده على الحديث النبوي في الاختيار بين القراءات، ومن ذلك قوله عند تفسيره قوله تعالى :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ (١) قال: "وقد قرئت: "وفصله ثلاثون شهراً" (٢)، ومعنى :"وفصاله" فطامه، وأقل ما يكون الحمل
لستة أشهر، والاختيار :"وفصاله" ؛ لأن الذي جاء في الحديث :" لا رضاع
بعد الفصال"(٣) يعني بعد الفطام " (٤)، والزجاج هنا اختار قراءة بناءً على الحديث المروي عن رسول الله - ﷺ -.
ومن ذلك أيضاً اختياره قراءة فتح الزاي في كلمة :"زَبوراً" في قوله تعالى:
(١)... سورة الأحقاف : ١٥.
(٢)... قرأ يعقوب من العشرة " وفصْله " من غير ألف مع فتح الفاء وإسكان الصاد، وقرأ باقي العشرة " وفصاله " بألف مع كسر الفاء وفتح الصاد. المبسوط ص٢٤٨، الكنز ص٢٣٨، النشر ٢/٢٧٩.
(٣)... أخرجه ابن أبي شيبة ٣/٥٥٠، موقوفاً على عمر رقم الأثر ١٧٠٥٤، وأخرجه أيضاً موقوفاً على علي بن أبي طالب رقم الأثر ١٧٠٥٥، وأخرجه عبد الرزاق ٦/٤١٦ مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - من حديث علي بن أبي طالب رقم الحديث ١١٤٥٠، وأخرجه موقوفاً على علي رقم الأثر ١١٤٥١، وذكر عبدالرزاق أن معمر بن راشد أبى إلا أنه مرفوع إلى النبي - ﷺ -.
(٤)... معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٤٢.

ومن أغرب ما ورد في إعراب " الكاف " ما ذكره أبو عبيدة (ت٢١٠هـ) في مجازه حيث قال :" مجازها مجاز القسم كقولك : والذي أخرجك ربك ؛ لأن "ما" في موضع الذي " (١).
وما ذكره أبو عبيدة وجه ضعيف رده عامة أهل النحو والمفسرين حتى علق أبو حيان (ت٧٤٥هـ) على قول أبي عبيدة: بأن أبا عبيدة كان ضعيفاً في علم النحو (٢)، وذكر: أن الكاف ليست من حروف القسم، وعلى فرض ذلك : فإن جواب القسم بالمضارع المثبت جاء بغير لام ولا نون توكيد ولابد منهما في مثل هذا على مذهب البصريين، أو من معاقبة أحدهما الآخر على مذهب الكوفيين، أما خلوه عنهما أو أحدهما فهو قول مخالف لما أجمع عليه الكوفيون والبصريون (٣).
وقد وافق الزجاج في اختياره هذا أيضاً الفراء (ت٢٠٧هـ)(٤)، ونوه النحاس
(ت٣٣٨هـ) بقول الزجاج حيث قال :" وقول أبي إسحاق هذا هو معنى قول الفراء؛ لأن الفراء قال : امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وهو من أحسنها" (٥).
والحاصل : أن الزجاج لا يعتمد إلا الأوجه الإعرابية القوية، رافضاً الأوجه الغريبة والشاذة ؛ لأن كتاب الله كما قال أبو حيان (ت٧٤٥هـ) :" لا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر الشماخ والطرماح وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة، والتراكيب القلقة، والمجازات المعقدة " (٦).
(١)... مجاز القرآن لأبي عبيدة ١/٢٤٠.
(٢)... البحر المحيط ٤/٤٥٦.
(٣)... المصدر نفسه.
(٤)... معاني القرآن للفراء ١/٤٠٣.
(٥)... إعراب القرآن للنحاس ٢/١٧٦.
(٦)... البحر المحيط ١/١٠٣.


الصفحة التالية
Icon