لأنفسهم قال: فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أنزل الله تعالى فيهم في قولنا وقولهم: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون﴾. قال عمر رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه. فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرءوها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوات ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها، قال: فألقي الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسوله الله ﷺ بالمدينة١.
فالآيات مدينة كما تفيد روايات أسباب النزول، إلا أن وضعها في السورة المكية منسجم تمام الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وأقرأ الآيات: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [الزمر: ٥٢-٥٦].
فنجد أن الآيات متلاحمة تمام التلاحم فلما كان بسط الرزق والتضييق فيه مظنة الإسراف على النفس فمع البسط الترف وارتكاب المحرمات والموبقات وصرفه على الشهوات.
وفي حال التضييق السعي للحصول عليه ولو بالعدوان. وفي كلا الأمرين ظلم للنفس، فاقتضت الحكمة الإلهية عدم التيئيس من رحمة الله تعالى، وفتح باب التوبة لهم للالتجاء إليه سبحانه وتعالى، وحذرهم من التسويف خشية حلول العذاب المفاجئ، فبعض أصابع الندم على تفريطه في جنب الله، وكما يكون الانحراف

١ تفسير ابن كثير: ٤/ ٦٠.


الصفحة التالية
Icon