مُجَاهِدٌ أَرَادَ بِالْمُلْكِ هَهُنَا النُّبُوَّةَ. وَقَوْلُهُ: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُلْكُ الْأَمْوَالِ وَالْعَبِيدِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَالْآخَرُ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ، فَهَذَا مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُسْلِمُ الْعَدْلُ دُونَ الْكَافِرِ وَدُونَ الْفَاسِقِ، وَسِيَاسَةُ الْأُمَّةِ وَتَدْبِيرُهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ، وَذَلِكَ لَا يُؤْتَمَنُ الْكَافِرُ عَلَيْهِ، وَلَا الْفَاسِقُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ إلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ سِيَاسَةُ الْمُؤْمِنِينَ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤].
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى الْكَافِرَ الْمُلْكَ. قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَالَ إنْ كَانَ الْمُرَادُ إيتَاءَ الْكَافِرِ الْمُلْكَ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ: آتَى إبْرَاهِيمَ الْمُلْكَ، يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَجَوَازَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي طَرِيقِ الْحِكْمَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الْآيَةَ. فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ; لِأَنَّهُ جَزَمَ الْفِعْلَ، فَهُوَ إذًا نَهْيٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ; وَنَظِيرُهَا مِنْ الْآيِ قَوْله تَعَالَى: ﴿لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ [آل عمران: ١١٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢٢] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى ﴿فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٠]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: ١١٣] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [لنجم: ٢٩] وقال تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [لأعراف: ١٩٩]. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طه: ١٣١] فَنَهَى بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُلَاطَفَتِهِمْ عَنْ النَّظَرِ إلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِإِبِلٍ لِبَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقَدْ عَبَسَتْ١ بِأَبْوَالِهَا مِنْ السِّمَنِ، فَتَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ وَمَضَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ﴾ [طه: ١٣١] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا

١ "قوله: عبست" بفتح العيين وكسر الباء أي جف البول على أفخاذها من السمن كما في النهاية. "لمصححه".


الصفحة التالية
Icon