﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ﴾ [هود: ١٠١] وَلَمْ يَكُونُوا آلِهَةً، وَلَكِنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ آلِهَةً فَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى مَا كَانَ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً﴾ يُقَالُ إنَّهُ طَلَبَ آيَةً لِوَقْتِ الْحَمْلِ لِيُعَجِّلَ السُّرُورَ بِهِ، فَأَمْسَكَ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَلِّمَ النَّاسَ إلَّا بِالْإِيمَاءِ; يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ في هذه الآية: ﴿ثَلاثَةَ أَيَّامٍ﴾ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: ﴿ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٠] عَبَّرَ تَارَةً بِذِكْرِ الْأَيَّامِ وَتَارَةً بِذِكْرِ اللَّيَالِيِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُعْقَلُ بِهِ مِقْدَارُهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ، فَيُعْقَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثَلَاثُ لَيَالٍ مَعَهَا وَمِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ فَقَالَ: ﴿سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ [الحاقة: ٧] لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْعَدَدِ الْأَوَّلِ عَقِلَ الْمَلَائِكَةُ مِثْلَهُ مِنْ الْوَقْتِ الْآخَرِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾
قيل في قوله: ﴿اصْطَفَاكِ﴾ :"اخْتَارَكِ بِالتَّفْضِيلِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي زَمَانِهِمْ" يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: "مَعْنَاهُ أَنَّهُ اخْتَارَك عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِحَالٍ جَلِيلَةٍ مِنْ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ" وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "وَطَهَّرَكِ مِنْ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا سَائِغٌ، كَمَا جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْكَافِرِ; لِأَجْلِ الْكُفْرِ فِي قَوْله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ والمراد نجاسة الكفر، فكذلك يكون ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ بِطَهَارَةِ الْإِيمَانِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِنَجَسٍ"، يَعْنِي بِهِ نَجَاسَةَ الْكُفْرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣] وَالْمُرَادُ طَهَارَةُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ" وَطَهَّرَكِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ من الحيض والنفاس وغيرهما".
مطلب: في أن إطلال الغمامة عليه ﷺ كان قبل البعثة إرهاصا له
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَطْهِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩] فَقَالَ قَائِلٌ: "كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "عَلَى وَجْهِ إرْهَاصِ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ، كَحَالِ الشُّهُبِ وَإِظْلَالِ الْغَمَامَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين﴾ قَالَ سَعِيدٌ: "أَخْلِصِي لِرَبِّك". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَدِيمِي الطَّاعَةَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ" أَطِيلِي قِيَامَ الصَّلَاةِ"، وَأَصْلُ الْقُنُوتِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ، وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْحَالِ الْأَمْرُ بِإِطَالَةِ الْقِيَامِ فِي
مطلب: في أن إطلال الغمامة عليه ﷺ كان قبل البعثة إرهاصا له
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَطْهِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩] فَقَالَ قَائِلٌ: "كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَقَالَ آخَرُونَ: "عَلَى وَجْهِ إرْهَاصِ نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ، كَحَالِ الشُّهُبِ وَإِظْلَالِ الْغَمَامَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين﴾ قَالَ سَعِيدٌ: "أَخْلِصِي لِرَبِّك". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَدِيمِي الطَّاعَةَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ" أَطِيلِي قِيَامَ الصَّلَاةِ"، وَأَصْلُ الْقُنُوتِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ، وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بالحال الأمر بإطالة القيام في


الصفحة التالية
Icon