بَابُ الْجَانِي يَلْجَأُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ يَجْنِي فِيهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَتْ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ مَوْجُودَةً فِي جَمِيعِ الْحَرَمِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ يَقْتَضِي أَمْنَهُ عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ جَانِيًا قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ جَنَى بَعْدَ دُخُولِهِ، إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا. وَمَعْلُومٌ أن قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ هُوَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ آمِنٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ، كَمَا نَقُولُ: هَذَا مُبَاحٌ وَهَذَا مَحْظُورٌ; وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مُبِيحًا يَسْتَبِيحُهُ، وَلَا أَنَّ مُعْتَقِدًا لِلْحَظْرِ يَحْظُرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُبَاحِ:"افْعَلْهُ عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْك فِيهِ، وَلَا ثَوَابَ" وَفِي الْمَحْظُورِ: "لَا تَفْعَلْهُ فَإِنَّك تَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِهِ". وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَحَظْرِ دَمِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] فَأَخْبَرَ بِجَوَازِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ، وَأَمَرَنَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إذَا قَاتَلُونَا؟ وَلَوْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ خَبَرًا لَمَا جَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ مُخْبَرُهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كان آمنا﴾ هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَنَهْيٌ لَنَا عَنْ قَتْلِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَنَا بِأَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَوْ أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ قَتْلٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ بِجِنَايَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ قَتْلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ، تَسْقُطُ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِهِ; لِأَنَّ الْحَرَمَ وَغَيْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ; إذْ كَانَ عَلَيْنَا إيمَانُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ ظُلْمٍ يَقَعُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِنَا إذَا أَمْكَنَنَا ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقٍّ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ وَفِي غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ مِنْ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَانِي فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ الْجَانِي فِي غَيْرِهِ إذَا لَجَأَ إليه.
مطلب في حكم الجاني في غير الحرم إذا التجأ إلَيْهِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَاذَ إلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مَا دَامَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُبَايَعُ، وَلَا يُؤَاكَلُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنْ قتل
بَابُ الْجَانِي يَلْجَأُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ يَجْنِي فِيهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَتْ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ مَوْجُودَةً فِي جَمِيعِ الْحَرَمِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ يَقْتَضِي أَمْنَهُ عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ جَانِيًا قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ جَنَى بَعْدَ دُخُولِهِ، إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا. وَمَعْلُومٌ أن قوله: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ هُوَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ آمِنٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا أَمَرَ بِهِ، كَمَا نَقُولُ: هَذَا مُبَاحٌ وَهَذَا مَحْظُورٌ; وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مُبِيحًا يَسْتَبِيحُهُ، وَلَا أَنَّ مُعْتَقِدًا لِلْحَظْرِ يَحْظُرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمُبَاحِ:"افْعَلْهُ عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْك فِيهِ، وَلَا ثَوَابَ" وَفِي الْمَحْظُورِ: "لَا تَفْعَلْهُ فَإِنَّك تَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِهِ". وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَحَظْرِ دَمِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] فَأَخْبَرَ بِجَوَازِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ، وَأَمَرَنَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إذَا قَاتَلُونَا؟ وَلَوْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا﴾ خَبَرًا لَمَا جَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ مُخْبَرُهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كان آمنا﴾ هُوَ أَمْرٌ لَنَا بِإِيمَانِهِ وَنَهْيٌ لَنَا عَنْ قَتْلِهِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَنَا بِأَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَوْ أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ قَتْلٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ بِجِنَايَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ قَتْلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ، تَسْقُطُ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِهِ; لِأَنَّ الْحَرَمَ وَغَيْرَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ; إذْ كَانَ عَلَيْنَا إيمَانُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ ظُلْمٍ يَقَعُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِنَا إذَا أَمْكَنَنَا ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقٍّ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ نُؤَمِّنَهُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ فِي الْحَرَمِ وَفِي غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ مِنْ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَانِي فِي الْحَرَمِ وَبَيْنَ الْجَانِي فِي غَيْرِهِ إذَا لَجَأَ إليه.
مطلب في حكم الجاني في غير الحرم إذا التجأ إلَيْهِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَنَى فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ لَاذَ إلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: "إذَا قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ مَا دَامَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُبَايَعُ، وَلَا يُؤَاكَلُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنْ قتل


الصفحة التالية
Icon