الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ مَا نُصِبَ لَهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ، قَائِلِينَ: رَبَّنَا آمَنَّا بِهِ; فَصَارُوا مَعْطُوفِينَ عَلَى مَا قَبْلَهُ دَاخِلِينَ فِي حَيِّزِهِ، وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي الشِّعْرِ، قَالَ يَزِيدُ بْنُ مُفْرِغٍ الْحِمْيَرِيُّ:
وَشَرَيْت بُرْدًا لَيْتَنِي | مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْت هَامَهْ |
فَالرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهُ | وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ |
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ اسْتِعْمَالُ الْمُحْكَمِ مُقَيَّدًا بِمَا فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ يُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَيُبْطِلُ فَائِدَةَ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُحْكَمِ. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا هُوَ فِي تَعَارُفِ الْعُقُولِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِمَا تَعَارَفَهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْعَقْلِ فِيهِ إلَى مُقَدِّمَاتٍ بَلْ يُوقَعُ الْعِلْمُ لِسَامِعِهِ بِمَعْنَى مُرَادِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ دُونَ عَادَاتٍ فَاسِدَةٍ قَدْ جَرَوْا عَلَيْهَا، فَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمُحْكَمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَاهُ إلَّا مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ، فَأَمَّا الْعَادَاتُ الْفَاسِدَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَجْهُ اتِّبَاعِ مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ دُونَ مَا أُحْكِمَ؟ قِيلَ لَهُ: نَحْوُ مَا رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ لَمَّا حَاجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسِيحِ فَقَالُوا: أَلَيْسَ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحًا مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَالُوا: حَسْبُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩] فَصَرَفُوا قَوْلَهُ: "كَلِمَةُ اللَّهِ" إلَى مَا يَقُولُونَهُ فِي قِدَمِهِ مَعَ اللَّهِ وَرُوحِهِ، صَرَفُوهُ إلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ قَدِيمٌ مَعَهُ كَرُوحِ الْإِنْسَانِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: "كَلِمَتُهُ" أَنَّهُ بَشَّرَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَسَمَاهُ كَلِمَةً مِنْ حَيْثُ قَدَّمَ الْبِشَارَةَ بِهِ، وَسَمَاهُ رُوحَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ بَلْ أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَفَخَ فِي جَيْبِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَأَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ تَعَالَى تَشْرِيفًا لَهُ، كَبَيْتِ اللَّهِ وَسَمَاءِ اللَّهِ، وَأَرْضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيلَ إنَّهُ سَمَّاهُ رُوحًا كَمَا سَمَّى الْقُرْآنَ رُوحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢]