"لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ" وَأَيْضًا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْخَبَرِ فِيمَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ عَلَى مَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ; لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ، وَيَكُونُ خَبَرُ مُعَاذٍ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" مُسْتَعْمَلًا فِي الْجَمِيعِ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَرْضَ يُقْصَدُ طَلَبُ نَمَائِهَا بِزِرَاعَتِهَا الْخَضْرَاوَاتِ كَمَا يُطْلَبُ نَمَاؤُهَا بِزِرَاعَتِهَا الْحَبَّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْعُشْرُ كَالْحُبُوبِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْحَطَبُ وَالْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبُتُ فِي الْعَادَةِ إذَا صَادَفَهُ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ زِرَاعَةٍ وَلَيْسَ يَكَادُ يُقْصَدُ بِهَا الْأَرْضُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَا خِلَافَ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الْحَقِّ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَأْكُلُهُ رَبُّ النَّخْلِ مِنْ التَّمْرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: "يُحْسَبُ عَلَيْهِ مَا أَكَلَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "إذَا أَكَلَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَأَطْعَمَ جَارَهُ وَصَدِيقَهُ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُ مَا بَقِيَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ الصَّاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مِمَّا أَكَلَ أَوْ أَطْعَمَ، وَلَوْ أَكَلَ الثَّلَاثَمِائَةِ صَاعٍ وَأَطْعَمَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُشْرٌ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهَا قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ عُشْرُ مَا بَقِيَ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ". وَقَالَ اللَّيْثُ فِي زَكَاةِ الْحُبُوبِ: "يُبْدَأُ بِهَا قَبْلَ النَّفَقَةِ، وَمَا أَكَلَ مِنْ فَرِيكٍ هُوَ وَأَهْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ الرُّطَبِ الَّذِي يُتْرَكُ لِأَهْلِ الْحَائِطِ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يُخْرَصُ عَلَيْهِ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "يُتْرَكُ الْخَارِصُ لِرَبِّ الْحَائِطِ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يَخْرُصُهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْ نَخْلِهِ وَهُوَ رُطَبٌ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْمَأْخُوذِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَكَلَهُ هُوَ وَأَهْلُهُ، فَهُوَ عَلَى الْجَمِيعِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُمِرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ، فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ الْحَصَادِ.
قِيلَ لَهُ: الْحَصَادُ اسْمٌ لِلْقَطْعِ، فَكُلَّمَا قَطَعَ مِنْهُ شَيْئَا لَزِمَهُ إخْرَاجُ عُشْرِهِ; وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ عَمَّا أُخِذَ قَبْلَ الْحَصَادِ; لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ: وَآتُوا حَقَّ الْجَمِيعِ يَوْمَ حَصَادِهِ الْمَأْكُولِ مِنْهُ وَالْبَاقِي
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَحْتَسِبْ بِالْمَأْكُولِ بِمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: جَاءَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ إلَى مَجْلِسِنَا، فَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعَوْا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَالرُّبْعَ"، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا حثمة خارصا،