وَإِنَّ افْتَرَقُوا فِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ الْحَسَنَةُ اسْمٌ لِلْأَعْلَى فِي الْحُسْنِ; لِأَنَّ "الْهَاءَ" دَخَلَتْ لِلْمُبَالَغَةِ فَتَدْخُلُ فِيهَا الْفُرُوضُ وَالنَّوَافِلُ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُبَاحُ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا; لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَمْدٌ وَلَا ثَوَابٌ، وَلِذَلِكَ رَغَّبَ اللَّهُ فِي الْحَسَنَةِ وَكَانَتْ طَاعَةً، وَكَذَلِكَ الْإِحْسَانُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدُ. فَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَاحُ; لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ حَسَنٌ، وَلَكِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَاءُ صَارَتْ اسْمًا لَا عَلَى الْحُسْنِ وَهِيَ الطاعات.
قوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ مَعْنَاهُ: فِي النَّعِيمِ وَاللَّذَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ أَمْثَالُهَا فِي عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْزِلَةَ التَّعْظِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَهَا إلَّا بِالطَّاعَةِ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ إنَّمَا هِيَ بِفَضْلِ اللَّهِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [فاطر: ٣٠] وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُسَاوَيْ مَنْزِلَةُ التَّفْضِيلِ مَنْزِلَةَ الثَّوَابِ فِي التَّعْظِيمِ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَبْتَدِئَهُمْ بِهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ، وَلَجَازَ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ الْمُنْعِمِ بِأَعْظَمِ النِّعَمِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُنْعِمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ قوله: ﴿دِيناً قِيَماً﴾ يَعْنِي مُسْتَقِيمًا; وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ، وَالْحَنِيفُ الْمُخْلِصُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْمَيْلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ رِجْلٌ أَحْنَفُ إذَا كَانَ مَائِلَ الْقَدَمِ بِإِقْبَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى خِلْقَةً لَا مِنْ عَارِضٍ، فَسُمِّيَ الْمَائِلُ إلَى الْإِسْلَامِ حَنِيفًا لِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ، وَإِنَّمَا جَاءَ أَحْنَفُ لِلْمَائِلِ الْقَدَمِ عَلَى التَّفَاؤُلِ كَمَا قِيلَ لِلَّدِيغِ سَلِيمٌ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ صَارَتْ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ دِينَهُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: نُسُكِي: دِينِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ: نُسُكِي: دِينِي. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "عِبَادَتِي". إلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَيْهِ هُوَ الذَّبْحُ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُمْ: فُلَانٌ نَاسِكٌ، مَعْنَاهُ عَابِدٌ لِلَّهِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الصلاة قال: "إِنِي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلَى قَوْلِهِ: "مِنَ الْمُسْلِمِينَ" وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك" وَالْأَوَّلُ كَانَ يَقُولُهُ عِنْدَنَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ