وقَوْله تَعَالَى: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ خَبَرٌ، وَمُخْبَرُ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ دُونَ بَعْضٍ; إذْ قَدْ وَجَدْنَا مَنْ يَتَزَوَّجُ وَلَا يَسْتَغْنِي بِالْمَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْغِنَى بِالْعَفَافِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَاصًّا فَهُوَ فِي الْأَيَامَى الْأَحْرَارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِمَا يَمْلِكُونَ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا فَيَكُونُ الْمَعْنَى وُقُوعَ الْغِنَى بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهِ عَنْ تَعَدِّيهِ إلَى الْمَحْظُورِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ; وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ مِلْكِ الْعَبْدِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
بَابُ الْمُكَاتَبَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾. رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "مَا أَرَاهُ إلَّا وَاجِبًا"، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ أَمَرَ أَنَسًا بِأَنْ يُكَاتِبَ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَأَبَى فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَضَرَبَهُ وَقَالَ: فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا، وَحَلَفَ عَلَيْهِ لِيُكَاتِبَنَّهُ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "إنْ كَانَ لِلْمَمْلُوكِ مَالٌ فَعَزِيمَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ". وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "إنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْ إنَّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشُّعَبِيِّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَرْغِيبٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ"، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ سِيرِينَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَحَكَمَ بِهَا عُمَرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَسٍ لِمُكَاتَبَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَنَسٌ أَيْضًا يَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهَا وَاجِبَةً لَمَا رَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَلَمْ يَضْرِبْهُ. قِيلَ: لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَالْوَالِدِ الْمُشْفِقِ لِلرَّعِيَّةِ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ فِي الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى غَالِبِ ظَنِّ الْمَوْلَى أَنَّ فِيهِمْ خَيْرًا، فَلَمَّا كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجْبَارُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ "إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً وَلَا تَدَعُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ". وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ قَالَ: "مَا نَرَاهُ إلَّا الْمَالَ" ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾ [البقرة: ١٨٠] قَالَ: "الْخَيْرُ الْمَالُ فِيمَا نَرَى"، قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْمَالَ. وَرَوَى
بَابُ الْمُكَاتَبَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾. رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "مَا أَرَاهُ إلَّا وَاجِبًا"، وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ أَمَرَ أَنَسًا بِأَنْ يُكَاتِبَ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَأَبَى فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَضَرَبَهُ وَقَالَ: فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا، وَحَلَفَ عَلَيْهِ لِيُكَاتِبَنَّهُ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "إنْ كَانَ لِلْمَمْلُوكِ مَالٌ فَعَزِيمَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ". وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "إنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْ إنَّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشُّعَبِيِّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا تَرْغِيبٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ"، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي قِصَّةِ سِيرِينَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَحَكَمَ بِهَا عُمَرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَسٍ لِمُكَاتَبَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَنَسٌ أَيْضًا يَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهَا وَاجِبَةً لَمَا رَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَلَمْ يَضْرِبْهُ. قِيلَ: لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَالْوَالِدِ الْمُشْفِقِ لِلرَّعِيَّةِ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ فِي الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى غَالِبِ ظَنِّ الْمَوْلَى أَنَّ فِيهِمْ خَيْرًا، فَلَمَّا كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجْبَارُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ "إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً وَلَا تَدَعُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ". وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ قَالَ: "مَا نَرَاهُ إلَّا الْمَالَ" ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً﴾ [البقرة: ١٨٠] قَالَ: "الْخَيْرُ الْمَالُ فِيمَا نَرَى"، قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عباس: يعني بالخير المال. وروى