والخلاصة أن اختيار الطبري متجه إلى أن الأحرف السبعة رفعت من القرآن الكريم، وأنها كانت إذناً من الله عز وجل يتضمن التخفيف عن الأمة حتى إذا هدمت حواجز كثيرة كانت تحول بين قبائل العرب، ردهم الله عز وجل إلى حرف واحد، ولكنه أذن أن يقرأ هذا الحرف بلهجات مختلفة هي القراءات التي ثبتت إلى المعصوم - ﷺ - تواتراً وأداءً.
وقد نص الطبري على هذا التعليل بعينه حين قال:
"فاستوثقت (٣٥) له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركه، طاعة منها له، ونظراً منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها وتعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها، وتتابع المسلمين إلى رفض القراءة بها من غير جحود منهم لصحتها وصحة شيء منها، ولكن نظراً منها لأنفسها ولسائر أهل دينها" (٣٦).
وبعد تفصيل رأي الفراهيدي واختيار الطبري أضع بين يديك اختيار الجمهور فقد رأى جمهور المفسرين أن الأحرف السبعة باقية في التنزيل وقد استوعبتها المصاحف العثمانية، وما هي إلا تحديد لوجهة الاختلاف في أداء الكلمة القرآنية، وفق ما أذن به النبي - ﷺ -.
وقد اعتبر الإمام أبو الفضل الرازي (٣٧) ممثلاً لرأي الجمهور، وقد نهج من جاء بعده على منواله في اختياره، وننقل لك هنا اختياره كالتالي:
الكلام لا يخرج عن سبعة أحرفٍ في الاختلاف:
الأول: اختلاف الأسماء من إفرادٍ، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث، مثاله قوله تعالى: ﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ (٣٨). قرىء هكذا: ﴿لأماناتهم﴾ جمعاً وقرىء ﴿لأمانتهم﴾ بالإفراد.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماضٍ ومضارعٍ وأمر. مثاله: قوله تعالى: ﴿فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا﴾ (٣٩) قرىء هكذا بنصب لفظ "ربنا" على أنه منادى وبلفظ "باعِدْ" فعل أمر، وقرىء هكذا ﴿ربُّنا بعَّد﴾ برفع "رب" على أنه مبتدأ وبلفظ "بعد" فعلاً ماضياً مضعَّف العين جملته خبر.
الثالث: اختلاف وجوه الإعراب، مثاله: قوله تعالى: ﴿ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد﴾ (٤٠) قريء بفتح الراء وضَمِّها، فالفتح على أن "لا" ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي فتحة إدغام المثلين. أما الضم فعلى أنَّ "لا" نافية، فالفعل مرفوع بعدها.
الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة: مثال: قوله تعالى: ﴿وما خلق الذكر والأنثى﴾ (٤١) قريء بهذا اللفظ وقريءَ أيضاً "والذكر والأنثى بنقص كلمة "ما خلق".
الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير: مثاله: قوله تعالى: ﴿وجاءت سكرة الموت﴾ (٤٢) وقريء "وجاءت سكرة الحق بالموت".
السادس: الاختلاف بالإبدال: مثاله: قوله تعالى: ﴿وانظر إلى العظام كيف ننشزها﴾ (٤٣) بالزاي وقريء "ننشرها" بالرَّاء.
السابع: اختلاف اللغات "اللهجات" كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام ونحو ذلك، مثاله قوله تعالى: ﴿بلى قادرين﴾ (٤٤) قريءَ بالفتح والإمالة في لفظ "بلى".
وعلى اختيار الرازي هذا جاءت آراء جماهير علماء القرآن، وأشهر من حرر هذه المسألة ابن قتيبة (٤٥) في المشكل، والطيب الباقلاني (٤٦) في الإعجاز، وابن الجزري (٤٧)، وإن يكن لكل واحد منهم وجه انفراد، غير أنهم التزموا منهج الوجوه السبعة المذكورة مع تغيير طفيف. ونطوي القول في مسألة القراءات والأحرف عند هذا الحد، مع أننا لم نحسم الجدل المستمر في تحقيق ضوابط ما بين القراءة والحرف، إذ ليس ذلك من شرط هذه الدراسة، ولكن الاطلاع على الأقوال المختارة في الباب يكشف لنا عن سبيل الإحاطة بهذه المعارف، وبحسبي أن أجزم هنا أن الأحرف السبعة الواردة في السنن الصحاح هي معنى آخر في التنزيل، متصل بالأداء، مختلف عن معنى القراءات ودلالته، مع.
------------
(٢٠) فتح الباري جـ٥ ص ٣٣، رقم الحديث ٥٤١٩.
(٢١) الإتقان ١/ ٧٨
(٢٢) الإتقان ١/ ٨٥
(٢٣) البرهان ١/ ٢٢٤


الصفحة التالية
Icon