ويمكن اختصار وجوه الأقوال بما استقر عليه العمل آخر المطاف وهو فتوى النووي في التبيان بقوله: (قال العلماء: يستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه وتصفية، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط، فإنما كرهها في ذلك الزمان خوفاً من التغير فيه، وقد أمن ذلك لكونه محدثا، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك). (٥٤٨)
وقد أوجز السيوطي تاريخ تدوين الشكل بقوله:
(كان الشكل في الصدر الأول نقطاً، فالفتحة نقطة على الحرف والضمة على آخره والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الداني، والذي اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها) (٥٤٩).
وهكذا فقد مرت عملية تحسين الرسم بمرحلتين اثنتين: نقط الإعراب، وهو ما نسميه بالتشكيل، ونقط الإعجام، وهو ما نسميه بالتنقيط، ولا يخفى أن ما نتحدث عنه في هذا المبحث هو نقط الإعراب، أي التشكيل.
والذي يعنينا هنا من أمر شكل القرآن هو أثر هذه الخطوة على القراءات، فقد نتج عن شكل القرآن غياب كثير من القراءات المشروعة (المتواترة) من النص القرآني فمثلا:
في سورة البروج تم شكل الآيات على الشكل الآتي:
﴿ذو العرش المجيدُ﴾: وهي قراءة جماهير القراء الأئمة، فغابت حينئذ قراءة مشروعة (متواترة) وهي: ذو العرش المجيدِ (بالخفض) وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف.
﴿في لوحٍ محفوظٍ﴾: وهي قراءة جمهور القراء، فغابت حينئذ قراءة مشروعة (متواترة) وهي: في لوحٍ محفوظٌ (بالرفع) وهي قراءة نافع
وفي سورة الفجر تم شكل الآيات على الشكل الآتي:
﴿والشفع والوَتر﴾: وهي قراءة الجمهور، فغابت حينئذ قراءة مشروعة (متواترة) وهي: والشفع والوِتر (بالكسر) وهي قراءة حمزة وخلف والكسائي
لا يعذِّب، ولا يوثِق: (بالكسر في الموضعين) وهي قراءة الجمهور، فغابت حينئذ قراءة مشروعة (متواترة) وهي: لا يعذّب، ولا يوثق (بالفتح) وهي قراءة الكسائي ويعقوب
ويطرح هنا سؤال بدهي لا بد من الإجابة عليه:
كيف تسنَّى لهم أن يطرحوا قراءة متواترة هي بإجماع الأمة جزء من القرآن الكريم؟
والجواب هو أنهم لم يطرحوا أياً من القراءتين، إذ هم لم يعتبروا الشكل تنزيلاً وإنما اعتبروه تعليماً، فكانت المصاحف تختلف شكلاً بحسب القراءة المتواترة التي ينهج عليها صاحب المصحف، ولا شك هنا أنه كان في العالم الإسلامي بدءاً من عصر أبي الأسود الدؤلي ولا زال حتى زماننا هذا مصاحف مختلفة بالشكل (حركات الإعراب والصرف) بحسب ما يؤدي إليه مقصد التواتر إسناداً، فثمة مصحف مرسوم بما يوافق قراءة أبي عمرو وآخر مرسوم بما يوافق قراءة نافع وهكذا.
غاية الأمر أن هذه المصاحف متفقة في أصل الرسم العثماني قبل الشكل مع حفظ الاستثناء الذي أشرنا إليه مراراً في المواضع التسعة والأربعين التي نهجت عليها المصاحف العثمانية الأصل.
------------
(٥٤٢) أبو الأسود الدؤلي (اق. هـ ـ ٦٩ هـ) هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني، واضع علم النحو، كان معدوداً من الفقهاء والأعيان والفرسان، تابعي، سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها في أيام علي وشهد معه صفين، ولما بويع لمعاوية قصده فأكرمه معاوية، وله شعر أيضاً. مات بالبصرة.
الأعلام جـ٣ ص ٢٣٨
(٥٤٣) يحيى بن يعمر (... ـ ١٢٩ هـ) هو يحيى بن يعمر الواشقي العدواني (أبو سليمان) أول من نقَّط المصاحف، ولد بالأهواز وسكن البصرة، كان من علماء التابعين، عارف بالحديث والفقه ولهجات العرب، أخذها عن أبيه وأخذ النحو عن الدؤلي، ولي قضاء مرو ثم عزل، وولي القضاء بالبصرة إلى أن مات بها.