ولدى انتشار الهدي القرآني في الحجاز، ومنه إلى آفاق الأرض، بدأ الحديث عن أصول التوثيق، وضوابط الرواية، وبدأ المتحدثون يسندون إلى من يروون عنه، ويعنون بتحرير ألفاظ الرواية شعوراً منهم بأنهم إنما ينقلون للناس أحكام الشريعة التي تنظم شؤون دنياهم وآخرتهم.
وكان في الصحابة في السلف الأول من يستحلف الرواة فيما يروونه للاطمئنان على صدق مروياتهم، على الرغم من عدالة الصحابة ومنزلتهم في نقل السنن.
وقد غلب على المسلمين الاشتغال بخدمة الإسناد في علومهم كافة، ولن تجد في القرون الأولى معرفة بغير إسناد، ويمكن القول إن علم الرواية هو أبو العلوم جميعاً في الإسلام، فالحديث والتفسير والفقه والتاريخ والعقائد كلها كانت جملة مرويات، على الباحث أن يختار منها ما يراه أقرب للحق وأوثق في الرواية.
وحينما بدأ عصر الاختصاص لم يفقد الإسناد أهميته، وإن يكن الرأي قد تبوأ منزلة محترمة، ولكن بقي المعول على الإسناد، وبقي الرأي لا يحتكم إليه إلا حينما تسكت النصوص، وغلبت القاعدة: لا اجتهاد في مورد النص، وهكذا انصرفت جهود العلماء إلى خدمة الإسناد للوقوف على الحقيقة، وهو ما اصطلح على تسميته فيما بعد بعلم التوثيق.
قال القسطلاني: (إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرَّفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد إنما هو صحف في أيديهم وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم التي أخذوها عن غير الثقات، بخلاف هذه الأمة فإنَّها تنص عن الثقة المعروف في زمانه بالصدق عن مثله حتى تتناهى أخبارهم) (٢٠١).
وليس المقام هنا مناسباً لإيراد جهود العلماء في ضبط الأسانيد إذ محل ذلك في كتب علم المصطلح، ولكن بحسبك أن تطمئن إلى أن السعي في هذا السبيل استغرق جهود العلماء لقرون طويلة.
وقد اشتغل العلماء ببيان أصول الرواية والمشافهة ومراتب الرجال وتناولوا بالبحث والتدقيق مسائل مفترضة لا تخطر على بال، سعياً في ضبط النصوص وتوثيقها وإسنادها.
ويمكن أن نضرب هنا مثلاً على مبلغ عناية المسلمين بعلم الإملاء والاستملاء وهو فرع من فروع أصول التوثيق في مناهج العلماء المسلمين، ومن خلال ذلك يمكنك أن تتفهم إلى أي مدى وصل البحث العلمي لدى المسلمين في ضبط الرواية.
ولبيان ذلك أنقل لك هنا هذا النص من ألفية السيوطي في علم الحديث، وفيه يقول السيوطي:
وإن يكُ الضربُ على مكرَّرِ * فالتالي اضربْ في ابتداءِ الأسطرِ
وفي الأخير أولاً، أو وُزِّعا * والوصفَ والمضافَ صلْ لا تقطعا
وحيث لا ووقعت في الأثْنَا * قولان: ثانٍ أو قليلٌ حُسْنَا
فهذه مسألة أفردها علماء الاصطلاح بالبحث وهي بيان ما يجب شطبه من الكلم المكرر حين يغلط الناسخ في تكرير اللفظة الواحدة فيكون تقسيم بحث السيوطي على الشكل التالي:
علم الحديث
قسم الرواية
باب الإملاء
بحث الغلط
فرع شطب المكرر
فهذه مسألة من الدرجة الخامسة من علم الحديث وقد أفردت بالبحث وتناولتها ألسنة العلماء وأقلامهم، حتى تعددت فيها الأقوال والاجتهادات كما رأيت!..
فلو كان في كل باب من هذه الأبواب عشر مسائل لكان علماء الاصطلاح قد كتبوا نحواً من مائة ألف مسألة في أصول حفظ وتدوين العلم الذي كان في ذلك الوقت منصباً على السنة النبوية بشكل أساسي.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه القواعد لم تكن محل اتفاق بين سائر العلماء المشتغلين بالتدوين والتوثيق، بل كان كل واحد يقرر في كتابه ما أداه إليه اجتهاده، وكان مدى اعتبار ذلك عند الناس هو منزلة العالم ومستواه العلمي والفكري (٢٠٢).