"كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضَلَّهُ الله وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن الرَّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته عن أن قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد، من قال به صدق ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراطٍ مستقيم" (٤).
وفي رواية:
"إن القرآن لا يليه من جبار فيعمل بغيره إلا قصمه الله، ولا يبتغي علماً سواه إلا أضله الله، ولا يخلق عن رده، وهو الذي لا تفنى عجائبه، من يقل به صدق، ومن يحكم به يعدل، ومن يعمل به يؤجر، ومن يقسم به يقسط" (٥).
وفي رواية:
"كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، ونبأ ما هو كائن بعدكم، وفيه الحكم بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب" (٦).
وقد أجمع العلماء على مبدأ عصمة النص القرآني من الزيغ والعبث والأهواء، وأيقن الباحثون أن النص الذي تنزل به جبريل الأمين على النبي - ﷺ - هو النص عينه الذي قرأ الناس في القرون الخالية وهو الذي يقرؤه الناس اليوم.
ومع أن كثيراً من الباحثين الغربيين تناولوا بالنقد والتحليل والجرأة سلامة النصوص المقدسة، وجزموا بتحريف كثير منها غير أنهم لم يطالوا بنقدهم سلامة النص القرآني إلا ما كان من بعض أصحاب الهوى الذين لم يجدوا من يهتم بأقوالهم وأفكارهم التي تفتقر إلى أدنى درجات التحقيق العلمي.
ولعل أوضح تجربة معاصرة في هذا الاتجاه هي ذلك البحث العلمي الرصين الذي قام به المفكر الفرنسي موريس بوكاي تحت عنوان: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديث، والذي انتهى من خلاله وعلى طريقة البحث الموضوعي المجرد إلى إثبات التحريف في التوراة والإنجيل ثم إثبات سلامة النص القرآني من أي تبديل أو تحريف أو تغيير.
وقد لخص موريس بوكاي نتيجة بحثه بقوله:
"إن لتنزيل القرآن تاريخاً يختلف تماماً عن تاريخ العهد القديم والأناجيل. فتنزيله يمتد على مدى عشرين عاماً تقريباً وبمجرد نزول جبريل به على النبي - ﷺ - كان المؤمنون يحفظونه عن ظهر قلب، بل قد سجل كتابة حتى في حياة محمد - ﷺ -. إن التجمعات الأخيرة للقرآن التي تمت في خلافة عثمان، فيما بين اثني عشر عاماً وأربعةٍ وعشرين عاماً بعد وفاة النبي - ﷺ - قد أفيدت من الرقابة التي مارسها هؤلاء الذين كانوا يعرفون النص حفظاً. بعد أن تعلموه في نفس زمن التنزيل وتلوه دائماً فيما بعد، ومعروف أن النص منذ ذلك العصر قد ظل محفوظاً بشكل دقيق، وهكذا فإن القرآن لا يطرح مشاكل تتعلق بالصحة.
إن القرآن وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه، لايخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل، بل هو يظهر أيضاً لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم، طابعه الخاص وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة، بل أكثر من ذلك، ولما أثبتنا، يكشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنساناً في عصر محمد ﷺ قد استطاع أن يؤلفها، وعلى هذا، فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن.
إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علمياً وبين مقولات القرآن التي تتوافق مع المعطيات الحديثة (٧).
وهذا التسليم بموثوقية النص القرآني تظاهرت عليه الأدلة من العقل والنقل والواقع، إلى حد لا مزيد عليه، وحسبك من ذلك أن نسخ القرآن العظيم التي تطبع اليوم في العالم وتتجاوز نسخها آلاف الملايين لا يختلف بعضها عن بعض في كلمة أو حرف أو نقطة أو شكل.
ولعل المنفذ الوحيد الذي اتخذه خصوم القرآن منفذاً للحديث عن اختلاط مزعوم في النص القرآني هو مسألة القراءات القرآنية، حيث يتوهم هؤلاء أنها ثغرة في عصمة النصوص، وأن الإقرار بها يستلزم القول بتوهين سلامة النص القرآني، ووجود فقرات بشرية من صنع القراء ضمن التنزيل القرآني الحكيم.
ولعل الإجابة على هذا السؤال عينه هي التي كانت وراء اختياري هذه الدراسة.