ولكن هذه الكثرة الكاثرة لن تحول دون اعتماد بعض الأئمة القراء معالم في الطريق، والركون إلى اختياراتهم ومناهجهم، وأن يتبرك الناس ببلوغهم في الأسانيد، تارة بغرض الاستيثاق وتارة بغرض البركة.
والأصل أن الطرق لا تتخالف فهي رواية عن الإمام ذاته، من خلال راوٍ بعينه، ولكن حصل أن تخالفت الطرق كما في طريق الأصبهاني وطريق الأزرق عن ورش، فهذا محمول إما على أن الإمام الراوي كان له وجهان ورد كل منهما بطريق، أو على أن صاحب أحد الطريقين وَهَمَ، والوهم في هذا الباب هدر، والمعول على الأصح إسناداً، وليس ثمة قاعدة مطردة تندرج تحتها أفراد هذه النزاعات، بل القول في كل مسألة لأئمة القراءة المعتمدين.
ويجدر القول هنا أن تخالفَ الطرق لم يأت أبداً بأي فرش جديد، ولا حتى بأصل قاعدي جديد (٢٣٢)، بل تكون غالب الأحوال صفة في الأداء، يقتصر في أدائها طريق، بينما يتوسع في أدائها طريق آخر.
وقد أوردت لك في الجداول الخاصة بالقراء أشهر الطرق عنهم (٢٣٣)، ولا موجب للتكرار وقد اتضح المقصود.
وإلى جانب هذه الطرق التي قصد أصحابها خدمة رواية بعينها، فإن ثمة طرقاً تنمى إلى بعض الأئمة قصدوا بها جمع أكثر من رواية، مثال ذلك طريق الشاطبي الذي قصد به إلى ضبط سبع قراءات في اثنتي عشرة رواية، وكذلك طريق الدرة المضية الذي قصد به ابن الجزري إلى ضبط ثلاث قراءات في ست روايات، وكذلك طريق طيبة النشر الذي قصد به ابن الجزري إلى ضبط عشر قراءات في عشرين رواية.
ويمكن التمييز بين هذين النوعين بأن نقول عن الأولى إنه طريق إفراد، وعن الثاني إنه طريق جمع.
ونستأنس هنا بما أورده السيوطي في الإتقان من أمر هذه الاصطلاحات بقوله:
تقسيم القراء أحوال الإسناد إلى قراءة ورواية وطريق ووجه، فالخلاف إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم واتفقت عليه الروايات والطرق عنه فهو قراءة. وإن كان للراوي عنه فرواية، أو لمن بعده فنازلاً فطريق، أو لا على هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه فوجه (٢٣٤).
وحاصل قول السيوطي أنه أفرد بالذكر اصطلاحاً رابعاً هو (الوجه) وهو قد يكون وجهاً في القراءة أو الرواية أو الطريق، والمراد بالوجه أن القارئ به لا ينكر الوجه الآخر للإمام المروي عنه، ويلزم القول إنهما معاً مأذون بهما، تَمَّ تلقيهما من الشيخ القارئ.
------------
(٢٣٢) مع حفظ استثناء واحد وهو باب مد البدل لورش، فقد نقل عنه أصحاب الطرق جواز الطول فيه، وأنكر هذا الباب عنه ابن غلبون، فجزم أن البدل عند ورش بالقصر لا غير. وعبارة الشاطبي:
وعاداً الأولى وابن غلبون طاهر * بقصر جميع الباب قال وقوَّلا
قال ابن القاصح في سراج القاري: إن ابن غلبون قال بالقصر، وجعله هو المذهب لورش، وما سواه غلطاً، وقرر ذلك في كتاب التذكرة، وإنما اعتمد على رواية للبغداديين، فأما المصريون فإنهم رووا التمكين عن ورش. انظر سراج القاري لابن القاصح ص ٥٧.
(٢٣٣) انظر ص ١٢٢ وما بعدها من هذا الكتاب
(٢٣٤) الإتقان جـ١ ص ٣٤
الفصل الرابع: قواعد القراء
تمهيد في معنى القواعد ومناطها
يقصد بقواعد القراء المسائل الأمهات التي تندرج في إطارها الحالات المختلفة لأداء النص القرآني كالمد والقصر والإدغام والإظهار والفتح والإمالة، وغير ذلك من الأمهات الجامعة.
وسيتضح المعنى بجلاء أكبر حين ندرس في الفصل القادم التعريف بالفرشيات والتمييز بينها وبين الأصول.
والغاية من بسط هذين الأصلين: قواعد القراء والفرشيات، فتح باب تحصيل القراءات أمام الراغبين، إذ يلاحظ أن غالب الدارسين للعلوم الإسلامية يتعاملون مع علم القراءات كعلم مغلق مبهم، ممنوع على غير أهل الاختصاص، والحقيقة أن تحصيل الكفاية من هذا العلم ممكن