إذا استقر لديك اليقين على أن هذه القراءات المتواترة جميعاً قد قرأ بها النبي - ﷺ - وأقرأها لم يكن لك أن تتوقف في إيمانك على العلة التي أدت إلى ذلك التعدد، ولا أن تسأل عن الضرورة التي ألجأت إليه، فهو وحي أمين، وهي إرادة الله عز وجل وهو: ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾.
ولكن التسليم بربانية مصدر هذه القراءات في سائر وجوهها لا يتناقض مع البحث عن حكمها وأسرارها ودلالاتها، وهي التي يمكن أن يتلمسها المرء لدى دراسته لوجوه هذه القراءات ومعانيها.
فمن خلال قراءة واقع اللغة العربية قبل الإسلام، فإن النتيجة التي ينتهي إليها كل باحث هي أن اللغة العربية كانت في حالة مخاض عسير، ولم يكن بالإمكان تصوُّر ما تنجلي عنه تلك الحالة الصعبة، فقد ترسَّخت العقدة القبلية لدى كثير من العرب، وحلّت محل الإحساس القومي، وتوزع كثير من العرب في ولاءاتهم بين الفرش والرُّوم والحبشة، وظهرت فيهم تيارات محلية ضمن قوقعة الذات، تدعو إلى إحلال اللهجات المحلية محل اللغة العربية الشاملة، وظهرت حينئذٍ لهجات عربية ضالة لا يمكن أن تلتقي على أصول واحدة إلاَّ مع استثناءات كثيرة تفوق الحصر وتخرج عن المنهج المطرد.
ومما وصل إلينا من أشكال التقارب بين اللهجات العربية على سبيل المثال: كشكشة تميم، وسكسكة بكر، وشنشنة تغلب، وغمغمة قضاعة، وطمطمانية حمير، ورتة العراق، وهي كما نرى لهجات منسوبة إلى قبائل بعينها.
وثمة انحرافات لغوية أخرى لم تنسب إلى قبائل بعينها ولكنها كانت شائعة فاشية، كالفأفأة، واللثغة، والغنَّة، واللكنة، والعقلة، والحبسةِ، والترخيم، والتمتمة، واللفف والإرتضاخ، والرَّطانة.
ويطول بنا البحث لو أردنا أن نسرد أشكال الانحرافات التي انتهت إليها لهجات القبائل المتوزعة في أطراف الجزيرة العربية ولعل من أهدافها ما كشفت عنه الحفريات في جنوب الجزيرة العربية حيث ثبت أن بعض عرب اليمن كانوا ينطقون ويكتبون لغة عربية، ولكن بدون الحروف الصوتية الثلاث: الألف، والواو، والياء... !!
ولقد نقل ابن عبد ربه وجوه هذه الانحرافات في موسوعته الكبيرة المسماة: العقد الفريد وفيما يلي أنقل لك كلامه بنصه كما أورده في باب خاص عقده تحت عنوان: آفات النطق: "قال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي: التمتمة في المنطق: التردد في التاء، والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة: تعذر الكلام عند إرادته، واللفف: إدخال حرفٍ في حرف، والرّتة: كالرتج تمنع أول الكلام فإذا جاء منه شيء اتصل به، والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف، فأما الرّتة: فإنها تكون غريزية. قال الراجز: يا أيها المخلط الأرت.
وأما الغمغمة: فإنها قد تكون من الكلام وغيره، لأنها صوت من لا يفهم تقطيع حروفه.
واستأنف فقال: والطمطمة: أن يعدل بحرف إلى حرف، والغنَّة: أن يشرب الحرف صوت الخيشوم والخنة: أشد منها، والترخيم: حذف الكلام، والفأفأة: التردد في الفاء.
وأما كشكشة تميم: فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شيناً لقرب الشين من الكاف في المخرج.
وأما سكسكة بكر: فقوم منهم يبدلون سن الكاف سيناً كما فعل التميميون في الشين.
وأما طمطمانية حمير ففيها يقول عنترة:
تأوي له قُلَص النعام كما أوتئ * حزم يمانية لأعجم طمطم (٩) " اهـ
بل أخذت الانحرافات اللغوية أشكالاً أبعد من ذلك حتى شاع لديهم تسميتها باللغات: كـ: لغة هذيل، ولغة قيس، ولغة كندة، وإن كنا نرى أن تسميتها باللغات ليس منهجاً مستقيماً، إذْ لم تخرج في عمومها عن مفردات العرب ومناهج نطقهم.
وذلك كله قبل الإسلام حيث كانت اللغة في مهدها في جزيرة العرب وبوسعك أن تتصور مستقبل لغة فيها هذه الفوارق منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام... !. خصوصاً إذا خرجت هذه اللغة عن إطارها التقليدي ضمن الجزيرة العربية لتمتد من خراسان وأذربيجان إلى الهلال الخصيب فالأندلس مروراً بالشمال الأفريقي كله، لاشك أنها ستصبح حينئذٍ ركاماً هائلاً من اللغات واللهجات التي لا يضبطها ضابط ولا يجمعها قانون. ومراراً كانت تأتي وفود العرب إلى النبي - ﷺ -
فتحدثه بلهجاتها ولغاتها فيخاطبها النبي - ﷺ - بما تعودته من لهجاتها، فيكون ذلك مثار دهشة الأصحاب وعجبهم.