فذلك كله يبدو بحسب الظاهر غير محتمل للرسم القرآني، ويدفع إلى القول بأنه لم يستكمل شروط القراءة المتواترة، فكيف إذن تمّ إدارجه فيها؟
وهذا الإشكال الموهم يتبدد تماماً حينما نلاحظ أن عثمان حين كتب المصاحف الستة التي فرقها في الأمصار كان يلحظ اختلاف القراءات التي أذن بها النبي - ﷺ - فما كان منها يحتمله الرسم كتغيير النقط، وتغيير الشكل، وتحقيق الهمز أو تسهيله، وإثبات المدات وقصرها، فذلك كله لا إشكال فيه لأن المصحف كتب أصلاً بغير نقط ولا شكل ولا همز.
وأما ما كان من الباب الثاني فقد لحظه عثمان رضي الله عنه من خلال إثباته في أحد المصاحف الستة، وهذا هو السبب في التفاوت اليسير بين مصاحف الأمصار، والذي سلم عامة القراء بوجوده، وقاموا بعزو كل وجه إلى مصحف من مصاحف الأمصار.
وهكذا فإن بين المصاحف الستة التي نسخها عثمان تفاوت يسير في بعض الحروف.
وقبل أن نأتي باستقراء جامع مانع لسائر هذه المواضع فإن من الواجب أن نزيد أمر هذا الاختلاف تجلية وبياناً، فهو مع أنها اختلاف يسير جداً، ولكن تصور أنه خطأ أو سهو مسألة خطيرة في تحقيق عصمة النص القرآني العظيم.
ومن أوضح الردود على ذلك ما سطره الإمام الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه المقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار إذ قال ما نصه: (قال أبو عمرو فإن سأل سائل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف قلت السبب في ذلك عندنا أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما جمع القرآن في المصاحف ونسخها على صورة واحدة وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها مما لا يصحّ ولا يثبت نظراً للأمّة واحتياطاً على أهل الملّة وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك مُنْزَلة ومن رسول الله - ﷺ - مسموعة وعلم أن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال غير متمكّن إلا بإعادة الكلمة مرّتين وفي رسم ذلك كذلك من التخليط والتغيير للمرسوم ما لا خفاء به ففرّقها في المصاحف لذلك فجاءت مثبتة في بعضها ومحذوفة في بعضها لكي تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل وعلى ما سُمِعَت من رسول الله - ﷺ - فهذا سبب اختلاف مرسومها في مصاحف أهل الأمصار) (٤٣٤)
وهكذا فإن هذه الأحرف المختلف فيها كتبت على الصحة، والإتقان، والعمد والقصد، لحفظ قراءتين على المسلمين قرأهما رسول الله - ﷺ - في وقتين من أوقات مختلفة... وأن الذي وقع من النقص والزيادة لم يكن عن سهو ناسخ، ولا عن غفلة ناقل ولا ضياع أصل.
وكذلك ننقل هنا طرفاً مما كتبه العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي مصر في هذه المسألة:
(إن هذا الاختلاف بين تلك المصاحف إنما هو اختلاف قراءات في لغة واحدة، لا اختلاف لغات، قصد بإثباته إنفاذ ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين واشتهاره بينهم. وإنما كتبت هذه في بعض بصورة، وفي آخر بأخرى، لأنها لو كررت في كل مصحف لتوهم نزولها كذلك، ولو كتبت بصورة في الأصل، وبأخرى في الحاشية لكان تحكماً مع إبهام التصحيح، ومثل هذا بعد أمر عثمان رضي الله عنه بنسخ المصحف وبعثه إلى كل جهة ما أجمع الصحابة على الأخذ به لا يؤدي إلى تنازع أو فتنة، لأن أهل كل جهد قد استندوا إلى أصل مجمع عليه وإمام يرشدهم إلى كيفية قراءاته.
والحاصل أن المصاحف العثمانية كتبت لتَسَعَ من القراءات ما يرسم بصور مختلفة إثباتا وحذفا وإبدالا، فكتبت في بعضها برواية، وفي بعضها برواية أخرى تقليلا للاختلافات من الجهة الواحدة بقدر الإمكان، فكما اقتصر على لغة واحدة في جميع المصاحف، اقتصر على رسم رواية واحدة في كل مصحف، والمدار في القراءة على عدم الخروج عن رسم تلك المصاحف ولذلك لا يحظر على أهل أي جهة أن يقرءوا بما يقتضيه رسم الجهة الأخرى (٤٣٥).
------------
(٤٢٧) سراج القارئ المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي لابن القاصح ص ١٤٨
(٤٢٨) تقريب النشر لابن الجزري ص ١٣٣
(٤٢٩) المصدر نفسه ص ١٠٢
(٤٣٠) المصدر نفسه ص ٧


الصفحة التالية
Icon