والخلاصة أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات: وذلك ضرب من ضروب البلاغة يبتدىء من جمال هذا الإيجاز وينتهي إلى كمال الإعجاز، أضف إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد ولا إلى تهافت وتخاذل بل القرآن كله على تنوع قراءاته يصدق بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم وذلك من غير شك يفيد تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف ومعنى هذا أن القرآن يعجز إذا قرىء بهذه القراءة ويعجز أيضا إذا قرىء بهذه القراءة الثانية ويعجز أيضا إذا قرىء بهذه القراءة الثالثة وهلم جرا ومن هنا تتعدد المعجزات بتعدد تلك الوجوه والحروف، ولا ريب أن ذلك أدل على صدق محمد لأنه أعظم في اشتمال القرآن على مناح جمة في الإعجاز وفي البيان على كل حرف ووجه وبكل لهجة ولسان ﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ﴾ [الأنفال ٤٢].
من أين جاء اختلاف القراءات: وما هي الدوافع لاختيار القراءات:
كما كان الدافع لجمع القرآن في زمن أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم هو صيانة كتاب الله تعالى، فإن ذلك أيضا كان وراء تحديد القراءات التي يقرأ بها.
يقول ابن الجزري: (ثم كثر الاختلاف أيضا فيما يحتمله الرسم، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد من المسلمين تلاوته، فوضعوها من عند أنفسهم وفاقاً لبدعهم، كم قال من المعتزلة ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ بنصب لفظ الجلالة، ومنالرافضة ﴿ وما كنت متخذ المضلين عضدا ﴾ بفتح اللام يعنون أبا بكرو عمررضي الله عنهما.