ولا أَعلَمُ أنَّ أحداً مِنَ السَّلفِ، جَعَلَها من المتشابه الداخل في هذه الآية (١).

(١) وقال: أما إدخال أسماء الله وصفاته، أو بعض ذلك في المتشابه، الذي لا يعلم تأويله إلا الله، واعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين، طوائف من أصحابنا، وغيرهم فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولون، ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم.
... فالكلام على هذا من وجهين، الأول: من قال إن هذا من المتشابه، وأنه لا يفهم معناه، فنقول أما الدليل على ذلك، فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل، ولا غيره، جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته، بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية التي مضمونها: تعطيل النصوص عما دلت عليه وردوها وأبطلوها ونصوص أحمد والأئمة بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه، من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد، والفضائل وغير ذلك.
... قال: والدليل على أن هذا ليس بمتشابه، لا يعلم معناه، أن نقول: لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء، مثل الرحمن والودود، والعزيز، والجبار، والعليم، والقدير والرءوف، ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات، مثل: سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد، وآخر الحشر، وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ و ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وأنه ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ويرضى عن الذين آمنوا، و ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾
﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ إلى أمثال ذلك، فيقال لمن ادعى في هذا، أنه متشابه، لا يعلم معناه، أتقول هذا في جميع ما سمى الله، ووصف به نفسه، أم في البعض؟ فإن قلت هذا في الجميع، كان هذا عنادا ظاهرا، وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح، فإنا نفهم من قوله: ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ معنى ونفهم من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ معنى ليس هو الأول ونفهم من قوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ معنى ونفهم من قوله: ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ معنى، وصبيان المسلمين، بل كل عاقل يفهم هذا.
... قال: ومن أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات، دون بعض فما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفاه، من جهة السمع؟ بأن أحد النصين دال دلالة قطعية، أو ظاهرة، بخلاف الآخر، أو من جهة العقل، بأن أحد المعنيين يجوز، أو يجب إثباته دون الآخر، وكلاهما باطل، في أكثر المواضع.
... قال: ونكتة الكلام: أن غالب من نفى، وأثبت شيئا، مما دل عليه الكتاب والسنة، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع، أو لعدم المقتضى فيبين له أن المقتضى فيما نفاه، قائم كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه، أو من وجه يجب به الإثبات، وإما المانع فيبين
أن المانع الذي يتخيله فيما نفاه، من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته، وعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي.
... قال: وما أعلم أحد من الخارجين، عن الكتاب والسنة، من جميع فرسان الكلام، والفلسفة، إلا ولا بد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره، ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، والصواب: ما عليه أئمة الهدى، وهو: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسول الله - ﷺ - لا يتجاوز القرآن، والحديث ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضيين، أهل العلم والإيمان، والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة، لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ ولا يترك تدبر القرآن، فيكون من باب الذين ﴿لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ﴾ فهذا أحد الوجهين، وهو: منع أن تكون من المتشابه.
... والوجه الثاني: إذا قيل هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة، أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها، فيقال: الذي في القرآن، أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه، كما تقدم في القيامة، وأمور القيامة وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث وفد نجران، ويؤيده، أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها، وهو ما يحتمل معنيين وفي مسائل
الصفات، ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد، وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه، أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا.
... وإنما نكتة الجواب، هو ما تقدم أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى، وذكر أن الله حظ على تدبره، وتفقه وتعقله والتذكر به، والتفكر فيه، وأنه تعالى لم يستثن من ذلك شيئا بل نصوص متعددة، تصرح بالعموم، وأن السلف من الصحابة والتابعين، وسائر الأمة، قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها، ورووا عن رسول الله - ﷺ - أحادث كثيرة توافق القرآن وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم.
... وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا عن شيء من ذلك لم ينفوا معناه بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية كقول مالك لما سئل عن قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره، وقد بين أن الاستواء معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم، ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال: كيف استوى ولم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه،
ولو قيل: كيف كلم موسى؟ قلنا: التكليم معلوم، والكيف غير معلوم؛ قال: ثم السلف متفقون على تفسيره، بما هو مذهب أهل السنة قال بعضهم: استوى على العرش ارتفع، علا على العرش، وأما التأويلات المحرفة، مثل استولى، وغير ذلك فهي من التأويلات المبتدعة.


الصفحة التالية
Icon