فقوله : يرتله ترتيلاً هذا اللفظ يحتمل كل ما يرد فيه من معان فيحتمل نزوله على مكث وتمهل، ويحتمل بيان حروفه وحركاته، وإعطاء كل حرف منه حقه ومستحقه.
ولقائل أن يقول: إذا كان القرآن نزل بادئ ذي بدء مرتلاً مجوداً وقرأه الرسول ﷺ كما أنزل فما معنى أمر الله لرسوله بالترتيل في آية المزمل ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾[١٢] وهي متأخرة النزول عن آيات سورة العلق السابقة.
ويجاب عن ذلك بأن الخطاب وإن كان له ﷺ إلا أن المراد أمته فهم مطالبون بترتيل وتجويد ما نزل إليهم من ربهم.
ولذلك نظائر كثيرة في كتاب الله من توجيه الخطاب لنبيه ﷺ والمراد أمته، من ذلك قوله تعالى :﴿لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً﴾[١٣]. فمعلوم أنه ﷺ لا يجعل مع الله إلاهاً آخر ولا يقعد مذموماً مخذولاً.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾[١٤]، ومعلوم أن والديه ﷺ قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم[١٥]. ومثل ذلك كثير.
فآية المزمل إنما تفيد التأكيد والالتزام بتلك الكيفية التي نزل عليها القرآن وبيان أنها أفضل مراتب القراءة وحض الأمة على الأخذ بها.
ولقد كان ﷺ هو المعلم الأول لهذه الأمة تلاوة كتاب ربهم وقراءته امتثالاً لأمر ربه حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾[١٦].
وتواتر ذلك في السنة : فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله ﷺ يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"[١٧].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا إذا تعلمنا من النبي ﷺ عشر آيات لم نتعلم من العشر الذي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه"[١٨].
وعن أبي بن كعب أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله أمرني أن أعرض القرآن عليك. فقال: أسمّاني لك ربك. قال: نعم. فقال أبي: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما تجمعون"[١٩].


الصفحة التالية
Icon