لقد كان المسجد النبوي في عهد الطلب من حياة نافع، زاخرا بحلقات الدرس ومجالس العلم في مختلف علوم الرواية، وكان توافر ذلك في رحابه الفسيحة يغري الواردين عليه بالإسهام في هذه الحركة تعلما وتعليما، حرصا على شرف العلم، وطلبا لأشرف العلوم، ورغبة في الأجر العظيم الذي جاء في مثل ذلك، من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ"من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير بتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله"(١).
وما زالت حلق الإقراء ومجالس العلم تتزايد في هذا المسجد الشريف مع الزمن، لاسيما بعد أن انتهت الفتوحات الإسلامية، وبعد أن انتقلت قاعدة الخلافة إلى الشام، فتفرغ أبناء المهاجرين والأنصار لهذه الشؤون، بعد أن سئموا الفتنة التي شهدها العقد الرابع من هذه المائة والعقود الثلاثة بعده، فاستكانوا للدعة والأمن في ظلال الدولة الأموية القائمة. بعد أن عانوا الأمرين قبل هذا من القلاقل والفتن، وهكذا أمسى الحرمان في مكة والمدينة موئلا لكثير من علية أهل الفضل وصفوة الرجال الراغبين في الخير، فكان حرم رسول الله ـ ﷺ ـ على الخصوص، يستقبل في كل يوم فوجا جديدا من الطلاب والعلماء من جميع الأقطار والولايات الإسلامية.
الحركة العلمية في المسجد النبوي في عهد ولاية عمر بن عبد العزيز
وقد تعزز هذا النشاط بولاية عمر بن عبد العزيز على الحجاز وكان قد تخرج في هذا الأفق نفسه على مشيخة المدينة، فكان من شيوخه صالح بن كيسان مولى بني غفار "من فقهاء المدينة من ذوي المروءة والهيئة"(٢)الذي عهد إليه أبوه بالإشراف عليه(٣).

(١) - كتاب العلم والعلماء لأبي بكر جابر الجزائري ط١ ١٤٠٣ دار الشروق بالمدينة.
(٢) - مشاهير علماء الأمصار ١٣٥ ترجمة ١٠٦٨.
(٣) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ١٣.

وقال ابن الجزري: "شيخ الأندلس في زماننا ومفتيها وخطيب جامع غرناطة الأكبر، إمام كبير علامة، ولد تقريبا سنة ٧٠١، وقرأ القراءات على علي بن عمر القيجاطي، وقرأ لنافع إلى قوله تعالى "إنما يستجيب" في الأنعام على إبراهيم بن محمد بن أبي العاص... وذكر أنه تصدر للإقراء ونشر العلوم، فأخذ الناس عنه واشتهر ذكره في بلاد الأندلس وسائر بلاد المغرب في الفتوى، قرأ عليه السبع صاحبنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن ميمون البلوي، ورأيت إجازته منه مؤرخة في ذي الحجة سنة ٧٦٤"(١).
ومن أعلام أصحابه الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي بن عمر القيجاطي حفيد أبي الحسن وشيخ المنتوري، ويظهر انه قرأ عليه للسبعة ولازمه طويلا، وقد روى المنتوري من طريقه عن القيجاطي الجد طائفة من كتب القراءات وغيرها، ومنها "كتاب التيسير".
قال القيجاطي الحفيد: "وقرأت بعضه على الأستاذ أبي سعيد فرج بن قاسم بن لب وأجاز لي جميعه، وحدثني به عن الأستاذ الخطيب المتفنن أبي الحسن علي بن عمر القيجاطي سماعا لبعضه وإجازة لجميعه عن القاضي ابن أبي الأحوص، وعن أبي بكر محمد بن وضاح اللخمي قراءة عن ابن هذيل عن أبي داود عن أبي عمرو الداني مؤلفه"(٢).
ومما رواه القيجاطي الحفيد من طريق أبي سعيد بن لب عن أبي الحسن القيجاطي كتاب التبصرة في القراءات لمكي من رواية القيجاطي لها عن ابن أبي الأحوص عن أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقي عن أبي الحسن علي بن أحمد بن أبي بكر بن حنين الكناني عن الزاهد أبي بكر خازم بن محمد بن خازم عن مؤلفها"(٣).
(١) - غاية النهاية ٢/٧ـ٨ ترجمة ٢٥٥١.
(٢) - فهرسة المنتوري لوحة ٤ نسخة الخزانة الحسنية بالرباط برقم ١٥٧٨.
(٣) - فهرسة المنتوري لوحة ٧.


الصفحة التالية
Icon