ج- أخذه في الاقراء بحصة ثابتة، فكان يقتصر على ثلاثين آية، وهو القدر الذي سيأخذ به نافع في تصدره للإقراء، وذلك ما اسنده أبو بكر بن مجاهد عن جعفر بن الزبير قال: "سمعت مسلم بن جندب يقرأ "ولا تيمموا الخبيث"(١)أي: توجهوا ـ قال ـ: وكان يعلمنا غدوة ثلاثين آية، وعشية ثلاثين آية"(٢).
د- تأثيره العام في جمهور قراء المدينة، بحكم ما ذكر له من فصاحة عالية، وذلك ما يفيده ما أسنده ابن مجاهد عن عيسى بن مينا قالون صاحب نافع قال: "كان أهل المدينة لا يهمزون(٣)حتى همز ابن جندب، فهمزوا "مستهزئون" و"يستهزئ"(٤).
وقد أشار أبو عمرو الداني في الأرجوزة المنبهة إلى اقتداء أهل المدينة به في الهمز فقال:
... والقرشيون وأهل يثربا لا يهمزون، ما خلا ابن جندبا
فانه همز فاقتدى به... قراؤهم، والجل من أصحابه
ذكر ذاك عنهم قالون... عيسى بن مينا الثقة المأمون(٥)
فاقتداء أهل المدينة به في مثل هذا، وهو هذلي، وتخليهم عن لغة قريش فيه، دليل على مقدار تأثيره في مجال الإقراء بوجه عام.
أما وفاة ابن جندب فذكر ابن حبان أنه "مات سنة ١٠٦هـ"(٦)، وقال الذهبي:

(١) - سورة البقرة أول الآية رقم ٢٦٧.
(٢) - كتاب السبعة في القراءات ٥٠.
(٣) - يعني يتجنبون المبالغة في تحقيق الهمز، لا تركه بالمرة في جميع المواضع، وإنما يميلون إلى تليين النطق به وإبداله غالبا، وذكر مكي في كتاب الرعاية عن حماد بن زيد أنه قال: رأيت رجلا يستعدي على رجل بالمدينة، فقلت: ما تريد منه؟ فقال: إنه يتهدد القرآن، قال: فإذا المطلوب رجل كان إذا قرأ يهمز، يعني انه كان يهمز متعسفا" – الرعاية ١٤٦.
(٤) - السبعة في القراءات ٦٠- والإشارة بالكلمتين إلى الآيتين ١٤-١٥ من سورة البقرة.
(٥) - الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني تحقيق الدكتور الحسن وكاك – مرقونة بالآلة.
(٦) - مشاهير علماء الأمصار ٧٥ ترجمة ٥٣٨.

قال المنتوري: " وكان شيخنا الأستاذ أبو عبد الله القيجاطي ـ رضي الله عنه ـ يأخذ فيه بالتفخيم، ولا يجيز الترقيق، ويحتج لذلك بأن الكسرة مقدرة بعد القاف، فقد ولي الراء حرف الاستعلاء كما وليها في " فرقة"، وبالتفخيم قرأته عليه، وبه آخذ"(١).
هذه نماذج من اختياراته التي تكاد تنتظم كل الأبواب الأصولية، وخاصة منها في أصول رواية ورش حيث يحتدم الخلاف. وقد عني المنتوري كما قدمنا ببسط مذاهبه وذكر اختياراته مع الحجج التي كان يحتج بها لها ويذكر غالبا أنه قرأ عليه بها وأنه بها يأخذ، وربما نبه على بعض ما خصص له ختمة في قراءته عليه كقوله في باب الوقف:"وإلى الأخذ بالإشارة ذهب شيخنا الأستاذ أبو عبد الله القيجاطي ـ رضي الله عنه ـ، وبذلك أخذ علي في الختمة التي قرأتها عليه بالوقف بالروم، وفي الختمة التي قرأتها عليه بالوقف بالإشمام"(٢).
خاتمة :
ولا يتسع المجال لتقويم اختيارات الشيخ وتلميذه والوقوف عند مآخذهما في تلك الاختيارات، وغرضنا فقط أن ننبه على مقدار الاستقلالية في فكر أبي عبد الله القيجاطي ومستوى تعامله مع مسائل الخلاف، وعمق معرفته بمذاهب الأئمة وتضلعه في علوم العربية، مما مكنه من التأهل للإدلاء بمثل تلك الاختيارات اعتمادا على دراسته وبحثه الخاص، لا على مجرد اتباع مشيخته واحتذاء خطا سلفه، وبذلك كان في هذه المدرسة فارس الميدان، وبه ختمت، لتفسح المجال للبلاد المغربية في العدوة الأخرى لتتولى قيادة هذه الحركة بعد أن نضجت فيها علوم هذا الشأن، وانتقل إليها أعلامه بعد سقوط الحواضر الأندلسية وأفول شمس الإسلام فيها.
وفي العدد التالي بعون الله سنقف على أهم تلك المدارس كما تمثلت في مدينة فاس والجهات التابعة لها.
والله الموفق.
فهرس المصادر والمراجع
المطبوعة والمخطوطة (المعتمدة في هذا العدد) : ١٥
(١) - لوحة ٢٩٤ – ٢٩٥.
(٢) - لوحة ٣٥١.


الصفحة التالية
Icon