وسيأتي في خبر رحلة ورش إليه ما يصور مبلغ التنافس بين طلبته من المهاجرين والأنصار على أخذ الدور والحصول على فرصة العرض المبكر بعد الصبح، مما يدل على المستوى الرفيع من التعامل الذي كان يأخذ به الشيخ في حلقته، ولهذا كان ذيوع صيت هذه الحلقة في الأمصار الإسلامية كثيرا ما يهيج أشواق كبار القراء في عهده، ويحفزهم على التفكير في شد الرحال إليه للتشرف بمثل هذا العرض، لاسيما بعد أن تقدمت السن بالشيخ، وأصبحت روايته من أعلى الروايات في زمنه، وبعد أن ذاع صيت الإمام مالك أيضا لهذا العهد، فأصبح الوارد على المدينة يجمع بين الروايتين: رواية القراءة ورواية الفقه عن إمامي دار الهجرة فيهما، ولقد كان الألم يحز في نفوس بعض الطلاب الذين كانت تضيق أيديهم عن نفقة البلاغ إلى هذه الديار، كما نقرؤه عن راوية القراءات في زمنه أبي عمر حفص بن عمر الدوري ـ أول من جمع قراءات الأمصار الخمسة مشهورها وشاذها رواية وحفظا ـ(١)، إذ يعبر بمرارة عن ما فاته من الرحلة إلى نافع في حياته، فيقول: "قرأت على إسماعيل بن جعفر بقراءة أهل المدينة ختمة، وأدركت حياة نافع، ولو كان عندي عشرة دراهم لرحلت إليه"(٢).
وهي شكوى تصور مبلغ الحسرة على ما فاته من الرواية المباشرة عن الشيخ في حياته(٣).
(٢) - معرفة القراء الكبار ١/١٥٨.
(٣) - وهو دليل على أنه روى عن نافع بواسطة إسماعيل، وقد رأيت في كتاب "قراءات القراء المعروفين" للأندرابي ص ٥٤-٥٥ سقوط اسم إسماعيل بين الدوري ونافع، فيكون خطأ من الناسخ أو الطابع.
وهكذا التزم في سائر الأبواب بعشرة أسولة كباب الهمزتين من كلمتين وباب الهمز المفرد وباب نقل ورش حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وباب الإظهار والإدغام، وباب الفتح والإمالة وبين اللفظين، وباب مذهب ورش في الراءات، وباب مذهبه في اللامات... إلى أن أتى على باب "قرش الحروف" فبدأها دون اسئلة، فقال "وهو بكل شيء عليم" أسكن قالون الهاء من "هو" و"هي" إذا كان قبلها واو أو فاء أو لام... وهكذا سرد الفرش المعهود في قراءة نافع من روايتي ورش وقالون على النسق الذي نجده بعده عند أبي الحسن بن بري وغيره، حتى ختم بقوله "أو ءاباؤنا" في سورة الواقعة فقال: وقرأ قالون بتسكين الواو، وجعلها "أو" التي للشك، فاعلم ذلك وبالله التوفيق (١).
قيمة كتاب التقريب وأثره في مؤلفات المتأخرين: