التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقل لباريها استسلاماً واعترافاً بقصورها، وفي ختم الآية بقوله تعالى :" وما يذكر إلا أولو الألباب " تعريض بالزائغين ومدح الراسخين، يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولي العقول، ومن ثم قال الراسخون :" ربنا لا تزغ قلوبنا " إلى آخر الآية، فخضعوا لباريهم لاشتراك العلم اللدني بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني وبالله التوفيق. وقال غيره: دلت الآية على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله :" أحكمت آياته " ولا قوله :" كتابا متشابها مثاني " حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون، لأن المراد بالإحكام في قوله :" أحكمت " الإتقان في النظم وأن كلها حق من عند الله، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضاً في حسن السياق والنظم أيضاً، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه. وحاصل الجواب أن المحكم ورد بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين، والله أعلم.
قوله :" فهم الذين سمى الله فاحذروهم " في رواية الكشمهني ( فاحذرهم ) بالإفراد، والأول أولى، والمراد التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وأن عددها بالجمل مقدار مدة هذه الآمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج حتى جاء عن ابن عباس أنه فسر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على ضبيع لما بلغه أنه يتبع المتشابه فضربه على رأسه حتى أدماه، أخرجها الدارمي وغيره. وقال الخطابي : المتشابه على ضربين : أحدهما ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه، والآخر ما لا سبيل إلى الوقف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه فيفتون، والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon