أموال اليتامى وما جاء فيها
قال تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢] قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٢] أي: الذين كانوا يتامى؛ لأن اليتامى لا يؤتون الأموال إلا إذا كبروا، فإذا كبروا لم يصدق عليهم أنهم يتامى؛ لأنه لا يُتْم بعد احتلام، فإيتاء الأموال لليتامى لا يكون إلا بعد أن يكبروا.
فإطلاق اليتامى هنا من باب إطلاق الاسم على الشيء باعتبار ما كان عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الشعراء: ٤٦]، إذ لا سجود مع سحر، ولكن أطلق عليهم (السحرة) باعتبار ما كانوا عليه من السحر.
كما يطلق الاسم على الشيء باعتبار ما سيئول إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: ١٠] فأطلق تعالى على أموال اليتامى (ناراً) باعتبار ما ستئول إليه.
ومعنى: ((وَآتُوا)) أي: أعطوا، وحد اليتم البلوغ ويحصل بواحد من ثلاثة أشياء: الأول: الاحتلام عند الرجل والمرأة، أو الحيض عند المرأة.
الثاني: السن وهو خمسة عشر عاماً؛ لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (عرضت على النبي ﷺ يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة للبلوغ فلم يجزني وردني، وعرضت عليه يوم الأحزاب وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) فجعله بعض العلماء حداً للبلوغ.
الثالث: إنبات شعر العانة حول الذكر أو الفرج، وهذا حد لبعض العلماء مستدلاً بحديث محمد بن كعب القرظي: (أنه لما قضى سعد بن معاذ في يهود بني قريظة أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، ففتش عن الصبيان فمن وجد قد أنبت قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكان محمد بن كعب فيمن لم ينبت).
قوله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]، أي: مع أموالكم، فحروف الجر تتناوب في الكتاب العزيز، فـ (إلى) تأتي بمعنى: (مع) و (مع) تأتي بمعنى الباء، وهكذا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ﴾ أي: أكل أموال اليتامى، ﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾ أي: إثماً كبيراً.
فأكل أموال الناس بالباطل كله إثم، ولكن أكل أموال اليتامى أشد إثماً من أموال غيرهم، فقد يكون الشيء محرماً ويزداد تحريماً لقرينة أخرى، فالزنا حرام لا شك في ذلك، لكن الزنا بحليلة الجار أشد حرمة، والكذب حرام، لكن الكذب على رسول الله ﷺ أشد حرمة، والكذب على الله أشد من ذلك، والمعصية في كل مكان حرام، لكن المعصية في البيت الحرام أشد حرمة لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥]، والمعصية من أي امرأة حرام، والفاحشة من أي امرأة حرام، لكن الفاحشة من أزواج النبي ﷺ -وحاشاهن من ذلك- أشد حرمة، لقوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠].
وإذا تكاثرت نعم الله تعالى على العبد كانت المؤاخذة أشد، وإن قلت نعم الله تعالى على العبد كانت المؤاخذة أقل، فالأمة إن زنت فعليها نصف ما على الحرة من العذاب؛ لأنها لا حق لها أصلاً في القسم، فإن شاء جامعها وإن شاء لم يجامع، أما الحرة فلا بد من القسم لها.
فأكل أموال الناس محرم، لكن أكل أموال اليتامى ﴿كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ أي: إثماً كبيراً؛ لأن اليتيم ضعيف ليس له أحد يرعاه ولا يدافع عن ماله ولا ينافح عنه، فقد تضرب اليتيم على رأسه وتضربه بالرجل ولا أحد يدافع عنه، ولو أن له أباً فلن تستطيع أن تفعل ذلك، فلذلك دافع الله تعالى عنهم بما شرعه في كتابه من وقاية وحماية لهم.
والأحاديث في كفالة اليتيم والحث على رعايته في غاية الكثرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، وجاءت امرأة بطفلتين لها إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تسألها الصدقة، فلم تجد عائشة عندها شيئاً تتصدق به إلا تمرة، فأعطتها التمرة، فأخذت المرأة التمرة وشقتها نصفين، نصف لهذه الطفلة ونصف لهذه الطفلة، فتعجبت عائشة من فعلها، فأخبرت النبي ﷺ فقال: (إن الله قد أوجب لها الجنة) وقال: (من ابتلي بشيء من هؤلاء البنات فأحسن إليهن كن ستراً له من النار)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وإيتاء اليتامى أموالهم يتمثل في صورتين: الصورة الأولى: الإنفاق عليهم من أموالهم وعدم الشح عليهم أثناء صغرهم.
والصورة الثانية: تسليم الأموال إليهم بعد البلوغ، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦].