منهج القرآن في التسلية وجبر الخواطر
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا﴾، أي: اتفقت كلمتهم واشتركوا فيها جميعاً، ﴿أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ [يوسف: ١٥].
جمهور المفسرين يقولون: هذا وحي ليوسف صلى الله عليه وسلم، وهل يلزم من ذلك القول بنبوته أثناء ذلك؟ من العلماء من قال: إن الوحي في هذا الموطن لا يستلزم النبوة، وهو كالوارد في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧].
وثَم وحي آخر: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ [النحل: ٦٨]، وثَم وحي ثالث في قوله تعالى: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥].
فمن العلماء من قال: لا يلزم حينئذ أن نقول إنه كان نبياً في هذا الوقت؛ لأنه كان صغيراً صلى الله عليه وسلم.
قال الله تبارك وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ)، أي: إلى يوسف صلى الله عليه وسلم، فبماذا أوحى إليه؟ من أهل العلم من يقول: إن هذا الوحي لتثبيت يوسف ولجبر خاطره؛ فإنه ذاك المظلوم الذي أوذي من أخوته، فالذي يؤذى ويظلم يحتاج إلى جبر خاطر، ومن ثَم شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة.
وقد قال تعالى في جبر الخواطر المنكسرة كما في التي كسر خاطرها بسبب طلاقها: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٤١]، وقال تعالى جبراً لخاطر الأيتام والمساكين الذين يحضرون قسمة الميراث: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: ٨].
فالخواطر المنكسرة يلزمنا أن نجبرها، وهذا منهج أصيل في كتاب الله، وفي منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول ﷺ وقد تخاصم وتحاكم إليه ثلاثة من أصحابه الكرام في شأن ابنة لـ حمزة عام الفتح لما خرجت تتبع رسول الله وتناديه: يا عمي يا عمي! فأخذها علي وقال لـ فاطمة: دونك ابنة عمك، ثم جاء جعفر ينازع فيها، وجاء زيد بن حارثة ينازع فيها، فتخاصم الثلاثة الفضلاء كل يريد أن يأخذ ابنة حمزة رضي الله تعالى عنه.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقضي بين الثلاثة الفضلاء من أصحابه، وبين يدي القضاء يجبر خواطرهم جميعاً، فيقول لـ علي: (يا علي! أنت مني وأنا منك، وقال لـ جعفر: أشبهت خلقي وخلقي، وقال لـ زيد بن حارثة: أنت أخونا ومولانا) وهذه توطئة طيبة بين يدي الحكم حتى يستقبل الحكم عن طيب نفس، ثم قال: (أعطوها لـ جعفر فإن الخالة بمنزلة الأم)، وكانت خالتها زوجة لـ جعفر رضي الله تعالى عنه.
فجبر الخواطر المنكسرة أمر أصيل في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، (وجبر الله خاطر نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كسر بتكذيب قومه له وبإخراجه من بلدته، وجعل كلمة التوحيد باقية في عقبه، كما قال عز وجل: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٨].
فمن ثَم جاء الوحي إلى يوسف عليه السلام وهو يشتم من هذا ويضرب من هذا، ويأتي يلقي بنفسه على أخيه ينتظر منه رحمة أو رفقاً فلا يجد شيئاً بل يجد هذا يزجره وهذا ينهره وهذا يضربه، وليس له عند إخوته ملجأ، لكن ملجأه إلى الله، قال عز وجل: ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف: ١٥]، أي: أنك يا يوسف ستخبر إخوتك بصنيعهم هذا في وقت هم لا يشعرون فيه أنك أنت يوسف.
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أثر رواه الطبري رحمه الله في تفسيره -وإن كان لنا تحفظ عليه من جهة الإسناد-: أن يوسف عليه السلام لما أتاه إخوته كي يمتاروا لأهليهم، ويأخذون الطعام لهم، أتاهم بالصواع ونقر نقرة عليه بعد أن حملهم بالمتاع، قال: إن الصواع يخبرني أنه كان لكم أخ اسمه يوسف، وأنكم أخذتموه وألقيتموه في بئر.
ثم نقر أخرى فقال: إن الصواع يخبرني أنكم ذهبتم إلى أبيكم وكذبتم عليه وقلتم: ﴿إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف: ١٧].
ثم ضرب ثالثة وقال: إن الصواع يخبرني أن لكم أخاً اسمه كذا وكذا فائتوني به.
وبعضهم ينظر إلى بعض، وبعضهم يتعجب من هذا الإخبار، والصواع لا يخبر وإنما يوسف عليه السلام يصل إلى مراده بهذه الحيلة كما لا يخفى، وإلا فالصواع لا يتكلم، والأثر موقوف على ابن عباس.
قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ)، أي: إلى يوسف ﷺ (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا)، أي: بصنيعهم هذا الذي صنعوه فيك، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، وتأويل هذا في قول يوسف عليه السلام لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ [يوسف: ٨٩]، فقد كانوا لا يشعرون، إلا أنهم فوجئوا بهذا القول، فقالوا: ﴿أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٩٠].
ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


الصفحة التالية
Icon